سُئِل عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْقَدْرِ

سُئِل عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْقَدْرِ
137 0

الوصف

[ سؤل عليه الصلاة والسلام في القدر]

جَاءَ سُرَاقَةُ بنُ مَالِكِ بنِ جُعْشُمٍ قالَ: يا رَسُولَ اللهِ، بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأنَّا خُلِقْنَا الآنَ، فِيما العَمَلُ اليَومَ؟ أَفِيما جَفَّتْ به الأقْلَامُ وَجَرَتْ به المَقَادِيرُ، أَمْ فِيما نَسْتَقْبِلُ؟ قالَ: لَا، بَلْ فِيما جَفَّتْ به الأقْلَامُ وَجَرَتْ به المَقَادِيرُ، قالَ: فَفِيمَ العَمَلُ؟ قالَ زُهَيْرٌ: ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو الزُّبَيْرِ بشَيءٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، فَسَأَلْتُ: ما قالَ؟ فَقالَ: اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ.


الراوي : جابر بن عبدالله | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم

الصفحة أو الرقم: 2648 

قَدَّر اللهُ سُبحانه وتَعالَى مَقاديرَ كلِّ شَيءٍ، وكَتَب على ابنِ آدَمَ حَظَّه في الدُّنيا والآخرةِ قبْلَ أنْ يَخلُقَه، وهي كِتابةُ عِلمٍ وإحاطةٍ بما سيَكونُ، وليْست كِتابةَ جَبرٍ وإكراهٍ، وقدْ أمَرَ سُبحانه الخلْقَ بأنْ يَعمَلوا وَفْقَ شرائعِه، ويَسَّر الأمورَ لهم، وخُيِّروا بيْنَ الإيمانِ باللهِ فيَسْعَدوا، أو الكفرِ والعِصيانِ فيَشْقُوا.

وفي هذا الحديثِ يَرْوي جابرُ بنُ عبدِ الله رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ سُراقةَ بنَ مالكِ بنِ جُعشُمٍ رَضيَ اللهُ عنه جاءَ إِلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وطَلبَ مِنه أنْ يُبيِّنَ لَهم دِينَهم بَيانًا شافيًا، والمرادُ هنا ليْس بيانَ جَميعِ الدِّينِ، وإنَّما بَيانُ ما يَعتقِدونه ويَدِينون به في مَسألةِ القدَرِ، وهلِ الأعمالُ مَكتوبةٌ عندَ اللهِ ومُقدَّرةٌ مِن الأزلِ أمْ لا؟ كأَنَّهم خُلِقوا الآنَ غيرَ عالِمِين بهذه المسألةِ، وأوَّلُ أمرٍ أرادَ أنْ يُبيِّنَه له هو: هلِ العملُ الَّذي يَعمَلُه المرءُ اليومَ وما يَترتَّبُ عليه مِن الثَّوابِ والعقابِ، هوَ بتَقديرٍ سابقٍ منَ اللهِ عزَّ وجلَّ في الأَزلِ، فنَفَذَت به مَشيئتُه، ولا يُمكِنُ فيهِ التَّغيُّرُ والتَّبدُّلُ، أمْ هوَ شيءٌ لَم يُقدَّرْ في الأَزلِ، بلْ هي أفعالٌ صادرةٌ منَّا بقُدرتِنا ومَشيئتِنا، ويَجري عَلينا كُلُّ فِعلٍ في الوَقتِ الَّذي نَستقبِلُه ونَقصدُه، مِن غَيرِ أنْ يَجريَ عَليهِ التَّقديرُ، فيكون العقابُ مُرتَّبًا عليها بحَسَبِها؟ فأبطَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ القسمَ الثَّانيَ، فأَجابَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بقولِه: «لا، بلْ فيما جَفَّت به الأَقلامُ وجَرتْ بِه المقاديرُ»، أي: إنَّ العَملَ الَّذي يَعمَلُه المرءُ اليومَ هوَ بتَقديرٍ سابقٍ منَ اللهِ عزَّ وجلَّ في الأَزلِ مَكتوبٍ في اللَّوحِ المحفوظِ ونَفَذَت به أقدارُ اللهِ وأحكامُه، ولا يُمكِنُ فيهِ التَّغيُّرُ والتَّبدُّلُ، فسَألَ سُراقةُ رَضيَ اللهُ عنه: فَفِيمَ العملُ؟ وأيُّ فائدةٍ لعَملِنا إذا جَفَّت به الأقلامُ وجَرَت به المقاديرُ؛ لأنَّ قَدَرَ اللهِ لا يُبدَّلُ، وقَضاءَهُ لا يُغيَّرُ، سواءٌ عَمِلنا الأعمالَ الصَّالحةَ أمْ عَمِلْنا غيْرَها؟ 

وأخبَرَ زُهَيْرُ بنُ مُعاويةَ أحدُ رُواةِ الحديثِ أنَّ شَيْخَه أبا الزُّبيرِ محمَّدَ بنَ مُسلمٍ تَكلَّمَ بكَلامٍ لم يَفهَمْ مَعناه، فسَألَ عمَّا قال ولم يَسمَعْه، فأُخبِرَ أنَّه روى أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال في تَمامِ الحديثِ: «اعمَلوا» يعني: ما أُمرِتُمْ به، ولا تَتَّكِلوا على ما جَفَّت به الأقلامُ؛ «فَكُلٌّ مُيسَّرٌ»، أي: لا تَدَعوا العَمَلَ؛ فالجنَّةُ لا تَأتي إلَّا بِعملٍ، والنَّارُ لا تَأتي إلَّا بِعَملٍ؛ فَلا يَدخُلُ الجنَّةَ إلَّا مَن عَمِلَ بعَملِ أَهلِ الجنَّةِ، وَلا يَدخُلُ النَّارَ إلَّا مَن عَمِلَ بعَملِ أَهلِ النَّارِ، وكُلٌّ مُيسَّرٌ لِما خُلِقَ لَه، فمن كتب في أَهلُ السَّعادةِ فيُيسَّرون لعَملِ أَهلِ السَّعادةِ، ومن كتب في أَهلُ الشَّقاوةِ فيُيَسَّرون لعَملِ أَهلِ الشَّقاوةِ، فعَمَلُكم أيُّها النَّاسُ عَلامةٌ على ما خُلِقْتُم لأجْلِه، فأمَرَهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالتزامِ ما يَجِبُ على العبدِ مِن العُبوديَّةِ، وزَجَرَهم عن التَّصرُّفِ في الأمورِ الغيبيَّةِ.

وفي الحديثِ: ثُبوتُ قَدَرِ اللهِ السَّابقِ لِخَلقِه، وهوَ عِلمُه بالأَشياءِ قَبلَ كَونِها، وكِتابَتُه لَها قَبلْ بَرْئِها.

وجاء في الاثار : أخرجه الطبري في "تفسيره" (13/564) ، من طريق أبي حكيمة ، قال : سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ: "اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ فَأَثْبِتْنِي فِيهَا ، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ الذَّنْبَ وَالشِّقْوَةَ فَامْحُنِي وَأَثْبِتْنِي فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ ، فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ ، وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ ".

وإسناده حسن كما قال ابن كثير في "مسند الفاروق" (2/549) .

مما يتعلق بهذا الدعاء مسألة مشهورة ، وهي : هل يتغير ما كتب من قدر العبد ، سواء كان في اللوح المحفوظ ، أم في صحف الملائكة ؟ وهل هو عام في كل شيء ، أم يستثنى منه الحياة والموت والسعادة والشقاوة ؟

وهذه المسألة ذكرها الإمام الطبري في "تفسيره" (13/564) ، واستقصى فيها أقوال السلف

فمنهم من يرى : أن ما كتب لا يتغير مطلقا . 

ومنهم من يرى : أن ما يتغير هو ما في أيدي الملائكة ، دون ما كان في اللوح المحفوظ .

ومنهم من يرى : أنه قد يغير الله المكتوب ، سوى الحياة والموت والسعادة والشقاوة .

ومنهم من يرى : أنه لا مانع من أن يغير الله القدر المكتوب مطلقا ، وهذا ينقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، واستظهره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (9/329) .

 

قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (14/490) :" وَالْجَوَابُ الْمُحَقَّقُ: أَنَّ اللَّهَ يَكْتُبُ لِلْعَبْدِ أَجَلًا فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ ، فَإِذَا وَصَلَ رَحِمَهُ ، زَادَ فِي ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ ، وَإِنْ عَمِلَ مَا يُوجِبُ النَّقْصَ ، نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكْتُوبِ .

وَنَظِيرُ هَذَا : مَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  أَنَّ آدَمَ لَمَّا طَلَبَ مِنْ اللَّهِ أَنْ يُرِيَهُ صُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ، فَأَرَاهُ إيَّاهُمْ ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ بَصِيصٌ ، فَقَالَ مَنْ هَذَا يَا رَبِّ؟ فَقَالَ ابْنُك دَاوُد . قَالَ: فَكَمْ عُمُرُهُ؟ قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً . قَالَ: وَكَمْ عُمْرِي؟ قَالَ: أَلْفُ سَنَةٍ . قَالَ فَقَدْ وَهَبْت لَهُ مِنْ عُمْرِي سِتِّينَ سَنَةً . فَكُتِبَ عَلَيْهِ كِتَابٌ ، وَشَهِدَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ : قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمْرِي سِتُّونَ سَنَةً . قَالُوا: وَهَبْتهَا لِابْنِك دَاوُد . فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ، فَأَخْرَجُوا الْكِتَابَ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَنَسِيَ آدَمَ ، فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ ، وَجَحَدَ آدَمَ ، فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ  .

 

وَرُوِيَ أَنَّهُ كَمَّلَ لِآدَمَ عُمُرَهُ، ولدَاوُد عُمُرَهُ . فَهَذَا دَاوُد كَانَ عُمُرُهُ الْمَكْتُوبُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ جَعَلَهُ سِتِّينَ.

 

وَهَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْت كَتَبَتْنِي شَقِيًّا ، فَامْحُنِي وَاكْتُبْنِي سَعِيدًا ؛ فَإِنَّك تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ .

 

وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِمَا كَانَ ، وَمَا يَكُونُ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ ، لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا كَتَبَهُ لَهُ ، وَمَا يَزِيدُهُ إيَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَالْمَلَائِكَةُ لَا عِلْمَ لَهُمْ ، إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ اللَّهُ . وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ كَوْنِهَا ، وَبَعْدَ كَوْنِهَا ؛ فَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّ الْمَحْوَ وَالْإِثْبَاتَ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ ، وَأَمَّا عِلْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يَخْتَلِفُ ، وَلَا يَبْدُو لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ ؛ فَلَا مَحْوَ فِيهِ وَلَا إثْبَاتَ .

 وَأَمَّا اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ : فَهَلْ فِيهِ مَحْوٌ وَإِثْبَاتٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ " انتهى.

 وقال ابن القيم في "شفاء العليل" (ص90) :" ومما ينبغي أن يُعلم : أنه لا يمتنع ، مع الطبع والختم والقفل : حصول الإيمان ؛ بأن يَفُك الذي ختم على القلب وطبع عليه وضرب عليه القفل ، ذلك الختم والطابع والقفل ، ويهديه بعد ضلاله ، ويعلمه بعد جهله ، ويرشده بعد غيه ، ويفتح قفل قلبه بمفاتيح توفيقه التي هي بيده ، حتى لو كتب على جبينه الشقاوة والكفر ، لم يمتنع أن يمحوها ، ويكتب عليه السعادة والإيمان .

 

وقرأ قارئ عند عمر بن الخطاب:  أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا  ، وعنده شاب فقال : اللهم عليها أقفالها ، ومفاتيحها بيدك ، لا يفتحها سواك . فعرفها له عمر وزادته عنده خيرا .

 وكان عمر يقول في دعائه: " اللهم إن كنت كتبتني شقيا ، فامحني واكتبني سعيدا ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت .

 فالرب تعالى فعال لما يريد ، لا حجر عليه " انتهى.

 فمما سبق يتضح أن دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يدل على أن الله يغير ما كتب للعبد من قدر الشقاوة أو السعادة ، إن شاء ، لا معقب لحكمه، ولا راد لفضله سبحانه ، فهو الفعال لما يريد .

 وأما تبديل السيئة بالحسنة بعد وقوعها ، فهذا إنما يكون بالتوبة والأعمال الصالحة .

كما في قوله تعالى : وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) الفرقان/68-70.

مرفق بصيغة بي دي إف
مرفق بصيغة وورد