مَصادِرِ العَقيدةِ عند أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ

مَصادِرِ العَقيدةِ عند أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ

الوصف

من مَصادِرِ العَقيدةِ عند أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ:

 النَّقلُ الصَّحيحُ

إنَّ النَّقلَ الصَّحيحَ يَشمَلُ الكتابَ والسُّنَّة الصَّحيحةَ. قال الله تعالى:﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل:89]، والعَقيدةُ في الله تعالى من أهمِّ ما بيَّن اللهُ في كتابِه. وقال اللهُ سُبحانَه عن نبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3-4]. 

لهذا كانت نصوصُ السُّنَّةِ مع الكتابِ هي معتَمَدَ السَّلَفِ في الاستدلالِ على مسائلِ الاعتِقادِ. قال البربهاريُّ: (اعلمْ -رحمَك اللهُ- أنَّ من قال في دينِ اللهِ برأيِه وقياسِه وتأويلِه مِن غيرِ حُجَّةٍ من السُّنَّة والجماعةِ، فقد قال على اللهِ ما لا يعلَمُ، ومن قال على اللهِ ما لا يعلَمُ فهو من المتكَلِّفين، والحقُّ: ما جاء من عندِ اللهِ، والسُّنَّة: سنةُ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والجماعةُ: ما اجتمع عليه أصحابُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في خلافةِ أبي بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ، ومن اقتصر على سُنَّةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وما كان عليه أصحابُه والجماعةُ، فَلَجَ على أهل البِدَعِ كُلِّهم، واستراح بدَنُه، وسَلِمَ له دينُه إن شاء الله؛ لأنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ستفترقُ أمَّتي))، وبيَّن لنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النَّاجيةَ منها، فقال:(( ما كنتُ أنا عليه اليومَ وأصحابي))(1)  ، فهذا هو الشِّفاءُ والبيانُ، والأمرُ الواضِحُ، والمنارُ المستنيرُ)(2).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لفظ الحديث: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلا بمثل حذو النعل بالنعل، حتى لو كان فيهم من نكح أمه علانية كان في أمتي مثله، إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة فقيل له: ما الواحدة؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي) أخرجه الترمذي (2641)، والطبراني (14/53) (14646)، والحاكم (444) واللفظ له. جود إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/284)، وذكر ثبوته البغوي في ((شرح السنة)) (1/185).

(2) يُنظر: ((شرح السنة)) (ص: 99).

من مَصادِرِ العَقيدةِ عند أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: الإجماعُ

الإجماعُ يستندُ في حقيقتِه إلى كتابِ اللهِ سبحانه وسُنَّة نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. ومسائِلُ الاعتقادِ الكُلِّيَّةُ كُلُّها مجمَعٌ عليها، وأكثَرُ مسائِلِ الاعتقادِ التفصيليَّةِ محلُّ إجماعٍ بين الصَّحابةِ والسَّلَفِ الصَّالحِ، ولا تجتمعُ الأمَّةُ في أمورِ العَقيدةِ ولا غيرِها على ضلالةٍ وباطلٍ، والإجماعُ الذي ينضبِطُ هو ما كان عليه السَّلفُ الصَّالحُ؛ إذ بعدهم كَثُر الخلافُ، وانتشرت الأُمَّةُ(1). وعلى هذا فإجماعُ السَّلَفِ الصَّالحِ في أمورِ الاعتقادِ حُجَّةٌ شرعيَّةٌ مُلزِمةٌ لمن جاء بَعْدهم، لا تجوزُ مخالفتُه. قال الله تعالى:﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115](2).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/157).

(2) يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/157)، ((علم العقيدة عند أهل السنة والجماعة)) لمحمد يسري (ص: 193).

 من مَصادِرِ العَقيدةِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: العقلُ الصَّريحُ

العَقلُ مصدَرٌ من مَصادِر المعرفةِ الدِّينيَّةِ، إلَّا أنه ليس مصدرًا مستقلًّا، بل يحتاجُ إلى تنبيهِ الشَّرعِ، وإرشادِه إلى الأدلَّةِ، فالعَقلُ لن يهتديَ إلَّا بالوَحيِ، والوَحيُ لا يُلغي العقلَ. والنُّصوصُ الشَّرعيةُ قد جاءت متضمِّنةً لأدِلَّةٍ عقليَّةٍ صافيةٍ من كُلِّ كَدَرٍ، فما على العَقلِ إلَّا فهمُها وإدراكُها. قال ابنُ تَيميَّةَ: (لا تحسبَنَّ أنَّ العُقولَ لو تُرِكَت وعلومَها التي تستفيدُها بمجَرَّدِ النَّظَرِ، عَرَفَت اللهَ مَعرفةً مُفَصَّلةً، بصفاتِه وأسمائِه على وَجهِ اليقينِ)(1). 

وخوضُ العَقلِ في أمورِ الإلهيَّاتِ باستقلالٍ عن الوَحيِ: مَظِنَّةُ الهلاكِ، وسَبيلُ الضَّلالِ. قال أبو القاسِمِ الأصبهانيُّ: (أمَّا أهلُ الحَقِّ فجَعَلوا الكتابَ والسُّنَّةَ إمامَهم، وطلبوا الدِّينَ من قِبَلِهما، وما وقع لهم من معقولهِم وخواطِرِهم عَرَضوه على الكِتابِ والسُّنَّةِ، فإن وَجَدوه موافقًا لهما قَبِلوه، وشَكروا اللهَ حيث أراهم ذلك ووفَّقهم إليه، وإن وَجَدوه مخالفًا لهم تركوا ما وقع لهم، وأقبلوا على الكتابِ والسُّنَّة، ورجعوا بالتُّهمةِ على أنفُسِهم؛ فإنَّ الكِتابَ والسُّنَّةَ لا يهديان إلَّا إلى الحَقِّ، ورأيُ الإنسانِ قد يرى الحقَّ، وقد يرى الباطِلَ، وهذا معنى قولِ أبي سليمانَ الدارانيِّ، وهو واحدُ زمانِه في المعرفةِ: ما حدَّثَتني نفسي بشَيءٍ إلَّا طلبتُ منها شاهدَينِ من الكِتابِ والسُّنَّةِ، فإن أتت بهما، وإلَّا رَدَدْتُه في نَحرِها. أو كلامًا هذا معناه)(2).

 وقال ابنُ تَيميَّةَ: (ما خالف العقلَ الصَّريحَ فهو باطِلٌ، وليس في الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ باطِلٌ، ولكِنْ فيه ألفاظٌ قد لا يفهمُها بعضُ النَّاس، أو يفهمون منها معنًى باطلًا، فالآفةُ منهم لا من الكتابِ والسُّنَّةِ)(3).

 وقال أيضًا: (هذا أبو الحسَنِ الأشعريُّ نشأ في الاعتزالِ أربعين عامًا يناظِرُ عليه، ثم رجع عن ذلك وصَرَّح بتضليلِ المعتزلةِ، وبالغ في الرَّدِّ عليهم! وهذا أبو حامد الغزاليُّ مع فَرطِ ذكائه وتألُّهِه ومعرفتِه بالكلامِ والفلسفةِ وسُلوكِه طريقَ الزُّهدِ والرِّياضة والتصَوُّف؛ ينتهي في هذه المسائِلِ إلى الوقفِ والحَيرةِ، ويُحيلُ في آخِرِ أمرِه على طريقةِ أهلِ الكَشْفِ، وإن كان بعد ذلك رجع إلى طريقةِ أهلِ الحديثِ، وصَنَّف "إلجام العوامِّ عن علمِ الكلامِ".

 وكذلك أبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ عُمَرَ الرَّازيُّ، قال في كتابه الذي صنَّفه في أقسامِ اللَّذَّات: لقد تأمَّلْتُ الطُّرُقَ الكلاميَّةَ، والمناهِجَ الفلسفيَّةَ، فما رأيتُها تشفي عليلًا، ولا تروي غليلًا، ورأيتُ أقربَ الطُّرُقِ طريقةَ القرآنِ؛ أقرأ في الإثباتِ ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: 10]، وأقرأُ في النَّفيِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: 110]، ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 65]، ثمَّ قال: ومن جَرَّب مِثلَ تجربتي، عَرَف مِثلَ مَعرفتي)(4). وقال السَّفاريني: (لو كانت مستقلَّةً يعني: العقولَ بمعرفةِ الحقِّ وأحكامِه، لكانت الحُجَّةُ قائمةً على النَّاسِ قبل بَعْثِ الرسُلِ وإنزالِ الكُتُبِ، واللازِمُ باطِلٌ بالنَّصِ؛ قال الله تعالى:﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15](5).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يُنظر: ((الصارم المسلول)) (2/459)

(2) يُنظر: ((الحجة في بيان المحجة)) (2/238).

(3) يُنظر: (مجموع الفتاوى)) (11/490).

(4) يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/72).

(5) يُنظر: ((لوامع الأنوار)) (1/105).

من مَصادِرِ العَقيدةِ عند أهلِ السُّنَّة والجماعةِ:  الفِطرةُ السَّويَّةُ

الفِطرةُ هي خَلقُ الخليقةِ على قَبولِ الإسلامِ، والتهيُّؤِ لتوحيدِ الله، وإدراكِ الحَقِّ. والِفطرةُ السَّوِيَّةُ تهدي العبدَ إلى أصولِ التَّوحيد والإيمانِ دونَ استدلالٍ أو برهانٍ. والقلوبُ مفطورةٌ على الإقرارِ به سُبحانَه أعظَمَ من كونِها مفطورةً على الإقرارِ بغيره من الموجوداتِ، كما قالت الرُّسُلُ:﴿ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [إبراهيم: 10](1). 


(1)  يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (8/38).