الحديث الثاني

الحديث الثاني
47 0

الوصف

الحديث الثاني

عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أقَال :

بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوْسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ذَاتَ يَوْمٍ إَذْ طَلَعَ عَلَيْناَ رَجُلٌ شَدِيْدُ بَيَاضِ الثّياب شَدِيْدُ سَوَادِ الشَّعْرِ لاَ يُرَى عَلَيهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنا أحَدٌ حَتى جَلَسَ إلَى النبِي فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفيْهِ عَلَى فَخِذِيْهِ وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلاَم ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : " الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إلَه إلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ الله ، وَتُقِيْمَ الصَّلاَة ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ، وَتَصُوْمَ رَمَضَانَ ، وَتَحُجَّ البيْتَ إِنِ اِسْتَطَعتَ إِليْهِ سَبِيْلاً " قَالَ: صَدَقْتَ. فَعجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرِنيْ عَنِ الإِيْمَانِ، قَالَ: " أَنْ تُؤمِنَ بِالله، وَمَلاِئكَتِه، وَكُتُبِهِ ، وَرُسُلِهِ ، وَالْيَومِ الآَخِر ، وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ " قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ فَأخْبِرْنِيْ عَنِ الإِحْسَانِ، قَالَ: " أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ " . قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ ، قَالَ : " مَا الْمَسئُوُلُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ " قَالَ : فَأخْبِرْنِيْ عَنْ أَمَارَاتِها ، قَالَ : " أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا ، وَأَنْ تَرى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُوْنَ فِي البُنْيَانِ " ثْمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثتُ مَلِيَّاً ثُمَّ قَالَ : " يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ " قُلْتُ اللهُ وَرَسُوله أَعْلَمُ قَالَ : " فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ أَتَاكُمْ يُعَلَّمُكُمْ دِيْنَكُمْ " .

رواه مسلم


شرح الحديث الثاني

1 / حديث جبريل هذا عن عمر رضي الله عنه انفرد بإخراجه مسلم عن البخاري، واتَّفقا على إخراجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والإمام النووي رحمه الله بدأ أحاديث الأربعين بحديث عمر "إنَّما الأعمال بالنيات"، وهو أوَّل حديث في صحيح البخاري، وثنَّى بحديث عمر في قصة مجيء جبريل إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو أوَّل حديث في صحيح مسلم،

وقد سبقه إلى ذلك الإمام البغوي في كتابيه شرح السنة ومصابيح السنَّة، فقد افتتحهما بهذين الحديثين.

2 /هذا الحديث هو أوَّل حديث في كتاب الإيمان من صحيح مسلم، وقد حدَّث به عبد الله بن عمر، عن أبيه، ولتحديثه به قصة ذكرها مسلم بين يدي هذا الحديث بإسناده عن يحيى بن يَعمر قال: "كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد ابن عبد الرحمن الحميري حاجَّين أو معتمرين،, فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عمَّا يقول هؤلاء في القدر، فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أنَّ صاحبي سيكل الكلام إليَّ، فقلت: أبا عبد الرحمن! إنَّه قد ظهر قبلنا ناسٌ يقرؤون القرآن ويتقفَّرون العلم، وذكر من شأنهم، وأنَّهم يزعمون أن لا قَدر وأنَّ الأمر أُنُف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرْهم أنِّي بريء منهم، وأنَّهم بُرآء منِّي، والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أنَّ لأحدهم مثل أُحُد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمنَ بالقدر، ثم قال: حدَّثني أبي عمر بن الخطاب"، وساق الحديث من أجل الاستدلال به على الإيمان بالقدر، وفي هذه القصة أنَّ ظهور بدعة القدرية كانت في زمن الصحابة، في حياة ابن عمر، وكانت وفاته سنة (٧٣هـ) رضي الله عنه، وأنَّ التابعين يرجعون إلى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في معرفة أمور الدِّين، وهذا هو الواجب، وهو الرجوع إلى أهل العلم في كلِّ وقت؛ لقول الله عزَّ وجلَّ: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وأنَّ بدعةَ القدرية من أقبح البدع؛ وذلك لشدَّة قول ابن عمر فيها، وأنَّ المفتي عندما يذكر الحكم يذكر معه دليله.

3 / في حديث جبريل دليل على أنَّ الملائكةَ تأتي إلى البشر على شكل البشر، ومثل ذلك ما جاء في القرآن من مجيء جبريل إلى مريم في صورة بشر، ومجيء الملائكة إلى إبراهيم ولوط في صورة بشر، وهم يتحوَّلون بقدرة الله عزَّ وجلَّ عن الهيئة التي خُلقوا عليها إلى هيئة البشر، وقد قال الله عزَّ وجلَّ في خلق الملائكة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} ، وفي صحيح البخاري (٤٨٥٧) ، ومسلم (٢٨٠) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى جبريل وله ستمائة جناح.

4 / في مجيء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلوسه بين يديه بيان شيء من آداب طلبة العلم عند المعلِّم، وأنَّ السائلَ لا يقتصر سؤاله على أمور يجهل حكمها، بل ينبغي له أن يسأل غيره وهو عالم بالحكم ليسمع الحاضرون الجواب، ولهذا نسب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث التعليم، حيث قال: "فإنَّه جبريل أتاكم يعلِّمكم دينكم"، والتعليم حاصل من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأنَّه المباشر له، ومضاف إلى جبريل؛ لكونه المتسبِّب فيه.

5 / قوله: "قال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلامُ أن تشهدَ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً"، أجاب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جبريل عندما سأله عن الإسلام بالأمور الظاهرة، وعندما سأله عن الإيمان، أجابه بالأمور الباطنة، ولفظَا الإسلام والإيمان من الألفاظ التي إذا جُمع بينها في الذِّكر فُرِّق بينها في المعنى، وقد اجتمعا هنا، ففُسِّر الإسلام بالأمور الظاهرة، وهي مناسبة لمعنى الإسلام، وهو الاستسلام والانقيادُ لله تعالى، وفسِّر الإيمان بالأمور الباطنة، وهي المناسبة لمعناه، وهو التصديق والإقرار، وإذا أُفرد أحدُهما عن الآخر شمل المعنيين جميعاً: الأمور الظاهرة والباطنة، ومن مجيء الإسلام مفرداً قول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، ومن مجيء الإيمان مفرداً قول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، ونظير ذلك كلمتَا الفقير والمسكين، والبر والتقوى وغير ذلك.

وأوَّل الأمور التي فُسِّر بها الإسلام شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وشهادة أنَّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاتان الشهادتان متلازمتان، وهما لازمتان لكلِّ إنسيٍّ وجنيٍّ من حين بعثته صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، فمَن لم يؤمن به صلى الله عليه وسلم كان من أصحاب النار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمَّة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلاَّ كان من أصحاب النار" رواه مسلم (٢٤٠) .

وشهادة أن لا إله إلاَّ الله معناها لا معبود حقٌّ إلاَّ الله، وكلمة الإخلاص تشتمل على ركنين: نفي عام في أولها، وإثبات خاص في آخرها، ففي أوَّلها نفي العبادة عن كلِّ من سوى الله، وفي آخرها إثبات العبادة لله وحده لا شريك له، وخبر"لا"النافية للجنس تقديره"حق"، ولا يصلح أن يُقدَّر"موجود"؛ لأنَّ الآلهة الباطلة موجودةٌ وكثيرة، وإنَّما المنفيُّ الألوهية الحقَّة، فإنَّها منتفيَةٌ عن كلِّ من سوى الله، وثابتة لله وحده.

ومعنى شهادة أنَّ محمداً رسول الله، أن يُحبَّ فوق محبَّة كلِّ محبوب من الخلق، وأن يُطاع في كلِّ ما يأمر به، ويُنتهى عن كلِّ ما نهى عنه، وأن تُصدَّق أخباره كلُّها، سواء كانت ماضيةً أو مستقبلةً أو موجودةً، وهي غير مشاهدة ولا معاينة، وأن يُعبد الله طبقاً لِمَا جاء به من الحقِّ والهدى وإخلاصُ العمل لله واتّباع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم هما مقتضى شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، وكلُّ عمل يُتقرَّب به إلى الله لا بدَّ أن يكون خالصاً لله ومطابقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فُقد الإخلاصُ لم يُقبل العمل؛ لقول الله عزَّ وجلَّ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} ، وقوله تعالى في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" رواه مسلم (٢٩٨٥) ، وإذا فُقد الاتِّباع رُدَّ العمل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" رواه البخاري (٢٦٩٧) ، ومسلم (١٧١٨) ، وفي لفظ لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، وهذه الجملة أعمُّ من الأولى؛ لأنَّها تشمل مَن فعل البدعة وهو مُحدثٌ لها، ومَن فعلَها متابعاً لغيره فيها .

٦ /قوله: "قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدِّقه! " وجه التعجُّب أنَّ الغالبَ على السائل كونه غير عالِم بالجواب، فهو يسأل ليصل إلى الجواب، ومثله لا يقول للمسئول إذا أجابه: صدقتَ؛ لأنَّ السائلَ إذا صدَّق المسئول دلَّ على أنَّ عنده جواباً من قبل، ولهذا تعجَّب الصحابةُ من هذا التصديق من هذا السائل الغريب.

٧ /قوله: "قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمنَ بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، هذا الجواب مشتملٌ على أركان الإيمان الستة، وأوَّل هذه الأركان الإيمان بالله، وهو أساس للإيمان بكلِّ ما يجب الإيمان به، ولهذا أُضيف إليه الملائكة والكتب والرسل، ومَن لَم يؤمن بالله لا يؤمن ببقيَّة الأركان، والإيمان بالله يشمل الإيمان بوجوده وربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته، وأنَّه سبحانه وتعالى متَّصفٌ بكلِّ كمال يليق به، منَزَّهٌ عن كلِّ نقص، فيجب توحيده بربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته.

وتوحيده بربوبيَّته الإقرارُ بأنَّه واحد في أفعاله، لا شريك له فيها، كالخَلق والرَّزق والإحياء والإماتة، وتدبير الأمور والتصرّف في الكون، وغير ذلك مِمَّا يتعلَّق بربوبيَّته.

وتوحيد الألوهيَّة توحيده بأفعال العباد، كالدعاء والخوف والرَّجاء والتوكُّل والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذَّبح والنَّذر، وغيرها من أنواع العبادة التي يجب إفراده بها، فلا يُصرف منها شيء لغيره، ولو كان ملَكاً مقرَّباً أو نبيًّا مرسَلاً، فضلاً عمَّن سواهما.

وأمَّا توحيد الأسماء والصفات، فهو إثبات كلِّ ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على وجه يليق بكماله وجلاله، دون تكييف أو تمثيل، ودون تحريف أو تأويل أو تعطيل، وتنزيهه عن كلِّ ما لا يليق به، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فجمع في هذه الآية بين الإثبات والتنزيه، فالإثبات في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} والتنزيه في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} ٌ، فله سبحانه وتعالى سمع لا كالأسماع، وبصر لا كالأبصار، وهكذا يُقال في كلِّ ما ثبت لله من الأسماء والصفات.

والإيمان بالملائكة الإيمانُ بأنَّهم خَلقٌ من خلق الله، خُلقوا من نور، كما في صحيح مسلم (٢٩٩٦) أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خُلقت الملائكةُ من نور، وخُلق الجانُّ من مارج من نار، وخُلق آدم مِمَّا وُصف لكم"، وهم ذوو أجنحة كما في الآية الأولى من سورة فاطر، وجبريل له ستمائة جناح، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدَّم قريباً، وهم خلقٌ كثيرٌ لا يعلم عددَهم إلاَّ الله عزَّ وجلَّ، ويدلُّ لذلك أنَّ البيتَ المعمور وهو في السماء السابعة يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملَك لا يعودون إليه، رواه البخاري (٣٢٠٧) ، ومسلم (٢٥٩) ، وروى مسلم في صحيحه (٢٨٤٢) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُؤتَى بجهنَّم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كلِّ زمام سبعون ألف ملَك يجرُّونها".

والملائكةُ منهم الموَكَّلون بالوحي، والموكَّلون بالقطر، والموكَّلون بالموت، والموكَّلون بالأرحام، والموكَّلون بالجنَّة، والموكَّلون بالنار، والموكَّلون بغير ذلك، وكلُّهم مستسلمون منقادون لأمر الله، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمَرون، وقد سُمِّي منهم في الكتاب والسنة جبريل وميكائيل وإسرافيل ومالك ومنكر ونكير، والواجب الإيمان بمَن والجنُّ ليس فيهم رسُل، بل فيهم النُّذُر، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ، فلم يذكروا رسلاً منهم، ولا كتباً أنزلت عليهم، وإنَّما ذكروا الكتابين المنزلين على موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ولم يأت ذكر الإنجيل مع أنَّه منَزَّلٌ من بعد موسى؛ وذلك أنَّ كثيراً من الأحكام التي في الإنجيل قد جاءت في التوراة، قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: "ولم يذكروا عيسى؛ لأنَّ عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم، وهو في الحقيقة كالمتمِّم لشريعة التوراة، فالعمدة هو التوراة، فلهذا قالوا: {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى}

والرسلُ هم المكلَّفون بإبلاغ شرائع أنزلت عليهم، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} والكتاب اسم جنس يُراد به الكتب، والأنبياء هم الذين أوحي إليهم بأن يُبلِّغوا شريعة سابقة، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} الآية، وقد قام الرسل والأنبياء بتبليغ ما أُمروا بتبليغه على التمام والكمال، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} ، وقال: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} قال الزهري: "من الله عزَّ وجلَّ الرسالة، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا التسليم"أورده البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد، باب قول الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (١٣/٥٠٣ مع الفتح) .

والرسلُ منهم من قُصَّ في القرآن، ومنهم من لم يُقصص، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} ، وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} ، والذين قُصوا في القرآن خمسة وعشرون، منهم ثمانية عشر جاء ذكرهم في سورة الأنعام في قوله تعالى:. {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}

والسبعة الباقون: آدم، وإدريس، وهود، وصالح، وشعيب، وذو الكفل، ومحمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين.

والإيمانُ باليوم الآخر التصديقُ والإقرار بكلِّ ما جاء في الكتاب والسنَّة عن كلِّ ما يكون بعد الموت، وقد جعل الله الدُّورَ دارين: دار 

٨ /قوله: "فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبدَ الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك"، الإحسان أعلى الدرجات، ودونه درجة الإيمان، ودون ذلك درجة الإسلام، وكلُّ مؤمن مسلم، وكلُّ محسن مؤمن مسلم، وليس كلُّ مسلم مؤمناً محسناً، ولهذا جاء في سورة الحجرات: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ، وجاء في هذا الحديث بيان علوِّ درجة الإحسان في قوله: "أن تعبد الله كأنَّك تراه" أي: تعبدَه كأنَّك واقفٌ بين يديه تراه، ومَن كان كذلك فإنَّه يأتي بالعبادة على التمام والكمال، وإن لَم يكن على هذه الحال فعليه أن يستشعر أنَّ الله مطَّلعٌ عليه لا يخفى منه خافية، فيحذرَ أن يراه حيث نهاه، ويعمل على أن يراه حيث أمرَه.

٩ /قوله: "قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل"، اختصَّ الله بعلم الساعة، فلا يعلم متى تقوم الساعة إلاَّ الله سبحانه وتعالى، قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ، وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُو} ، ومنها علم الساعة، ففي صحيح البخاري (٤٧٧٨) عن عبد الله بن عمر قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مفاتيحُ الغيب خمسة، ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} "، وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وجاء في السنَّة أنَّ الساعةَ تقوم يوم الجمعة، أمَّا من أيِّ سنة؟ وفي أيِّ شهر من السنة؟ وفي أيِّ جمعة من الشهر؟ فلا يعلم ذلك إلاَّ الله، ففي سنن أبي داود (١٠٤٦) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلاَّ وهي مسيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس؛ شفقاً من الساعة إلاَّ الجنّ والإنس" الحديث، وهو حديث صحيح رجاله رجال الكتب الستة، إلاَّ القعنبي فلم يخرج له ابن ماجه.

وقوله: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" معناه أنَّ الخلق لا يعلمون متى تقوم، وأنَّ أي سائل وأيَّ مسئول سواء في عدم العلم بها.

١٠/ قوله: "قال: فأخبرني عن أمَاراتِها؟ قال: أن تلدَ الأَمَةُ ربَّتَها، وأن ترى الحُفاةَ العُراة العالة رِعاء الشاءِ يتطاولون في البُنيان"، أماراتها: علاماتها، وعلامات الساعة تنقسم إلى قسمين: علامات قريبة من قيامها، كخروج الشمس من مغربها، وخروج الدجَّال، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء وغيرها، وعلامات قبل ذلك، ومنها العلامتان المذكورتان في هذا الحديث.

ومعنى قوله: "أن تلد الأَمَة ربَّتها" فُسِّر بأنَّه إشارة إلى كثرة الفتوحات وكثرة السبي، وأن من المسْبيات مَن يطؤها سيِّدُها فتلد له، فتكون أمَّ ولد، ويكون ولدها بمنزلة سيِّدها، وفسِّر بتغير الأحوال وحصول العقوق من الأولاد لآبائهم وأمَّهاتهم وتسلُّطهم عليهم، حتى يكون الأولاد كأنَّهم سادة لآبائهم وأمَّهاتهم. ومعنى قوله: "وأن ترى الحُفاةَ العُراة العالة رِعاء الشاءِ يتطاولون في البُنيان" أنَّ الفقراء الذين يرعون الغنم ولا يجدون ما يَكتسون به تتغيَّر أحوالهم وينتقلون إلى سكنى المدن ويتطاولون فيها بالبنيان، وهاتان العلامتان قد وقعتَا.

١١ /قوله: "ثمَّ انطلق فلبث مليًّا ثم قال: يا عمر أتدري مَن السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنَّه جبريل أتاكم يعلِّمُكم دينَكم" معنى مليًّا: زماناً، فقد أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه عن السائل بأنَّه جبريل عقب انطلاقه، وجاء أنَّه أخبر عمر بعد ثلاث، ولا تنافي بين ذلك؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر الحاضرين ولم يكن عمر رضي الله عنه معهم، بل يكون انصرف من المجلس، واتَّفق له أنَّه لقي النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث فأخبره.

مِمَّا يُستفادُ من الحديث:

١- أنَّ السائلَ كما يسأل للتعلُّم، فقد يسأل للتعليم، فيسأل مَن عنده علم بشيء من أجل أن يسمع الحاضرون الجواب.

٢ -أنَّ الملائكةَ تتحوَّل عن خِلقتِها، وتأتي بأشكال الآدميِّين، وليس في هذا دليل على جواز التمثيل الذي اشتهر في هذا الزمان؛ فإنَّه نوعٌ من الكذب، وما حصل لجبريل فهو بإذن الله وقدرته.

٣ -بيان آداب المتعلِّم عند المعلِّم.

٤ أنَّه عند اجتماع الإسلام والإيمان يُفسَّر الإسلام بالأمور الظاهرة، والإيمان بالأمور الباطنة.

٥ -البدء بالأهمِّ فالأهمِّ؛ لأنَّه بُدىء بالشهادَتين في تفسير الإسلام، وبدىء بالإيمان بالله في تفسير الإيمان. ومعنى قوله: "وأن ترى الحُفاةَ العُراة العالة رِعاء الشاءِ يتطاولون في البُنيان" أنَّ الفقراء الذين يرعون الغنم ولا يجدون ما يَكتسون به تتغيَّر أحوالهم وينتقلون إلى سكنى المدن ويتطاولون فيها بالبنيان، وهاتان العلامتان قد وقعتَا.

٦ -أنَّ أركان الإسلام خمسة، وأنَّ أصولَ الإيمان ستة.

٧ -أنَّ الإيمان بأصول الإيمان الستة من جملة الإيمان بالغيب.

٨ -بيان التفاوت بين الإسلام والإيمان والإحسان.

٩ -بيان علوِّ درجة الإحسان.

١٠- أنَّ علم الساعة مِمَّا استأثر الله بعلمه.

١١ -بيان شيء من أمارات الساعة.

١٢ -قول المسئول لِمَا لا يعلم: الله أعلم


مرفق بصيغة بي دي إف
مرفق بصيغة وورد