الحديث الرابع

الحديث الرابع
35 0

الوصف

الْحَدِيثُ الرَّابِعُ

عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ إلَه تَعَالَى عَنْهُ قَالَ :

حدَّثنا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ : "إنَّ أحدَكم يُجمع خلقُه فِي بَطْنِ أمِّه أَرْبَعِين يوماً نُطْفَة ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمّ يُرسل إلَيْه الملَك فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحُ ، ويُؤمر بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ : بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَآجِلِه وَعَمَلِه وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدِ ، فَوَاللَّه الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ ، إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجنَّة ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاع ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا ، وَإِن أحدَكم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاع ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فيدخلها" .

رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ


شرح الحديث

١- قَوْلُه : "وهو الصَّادِق المصدوق"معناه الصَّادِقَ فِي قَوْلِهِ ، المصدَّق فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْوَحْيِ ، وإنَّما قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ هَذَا الْقَوْلِ ؛ لأنَّ الْحَدِيثِ عَنْ أُمُورٍ الْغَيْب الَّتِي لَا تُعرف إلاَّ عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ .

٢- قَوْلُه : "يُجمع خَلْقِهِ فِي بَطْنِ أمِّه" ، قِيل : يُجمع مَاءُ الرَّجُلِ مَعَ مَاءِ الْمَرْأَةِ فِي الرَّحم ، فيُخلق مِنْهُمَا الْإِنْسَان ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ : { خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ } ، وَقَال : { أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } وَالْمُرَاد بِخَلْقِه مَا يَكُونُ مِنْهُ خُلِقَ الْإِنْسَانَ ، وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (١٤٣٨) : "ما مِن كلِّ المنيِّ يَكُون الولد" .

٣- فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ أَطْوَار خَلَقَ الْإِنْسَانَ ، وَهِي : أوَّلاً : النُّطْفَة ، وَهِيَ الْمَاءُ الْقَلِيلِ ، وثانياً : الْعَلَقَة ، وَهِيَ دَمٌ غَلِيظٌ متجمِّد ، وثالثاً : الْمُضْغَه.وهي القطعة من اللحم على قدر ما يمضغه الآكل، وقد ذكر الله هذه الثلاث في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} ومعنى {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} مصورة وغير مصوَّرة، وأكثر ما جاء فيه بيان أطوار خلق الإنسان قول الله عزَّ وجلَّ في سورة المؤمنون: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}

٤- في الحديث أنَّه بعد مضيِّ هذه الأطوار الثلاثة وقدرها مائة وعشرون يوماً تُنفخ فيه الروح، فيكون إنساناً حيًّا، وقبل ذلك هو ميت، وقد جاء في القرآن الكريم أنَّ الإنسانَ له حياتان وموتتان، كما قال الله عزَّ وجلَّ عن الكفَّار: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} ، فالموتة الأولى ما كان قبل نفخ الروح، والحياة الأولى من نفخ الروح إلى بلوغ الأجل، والموتة الثانية من بعد الموت إلى البعث، وهذه الموتة لا تنافي الحياة البرزخية الثابتة بالكتاب والسنة، والحياة الثانية الحياة بعد البعث، وهي حياة دائمة ومستمرَّة إلى غير نهاية، وهذه الأحوال الأربع للإنسان بيَّنها الله بقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} ، وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وإذا وُلد بعد نفخ الروح فيه ميتاً تجري عليه أحكام الولادة، من تغسيله والصلاة عليه والخروج من العدة وكون الأمَة أم ولد، وكون أمِّه نفساء، وإذا سقط قبل ذلك فلا تجري عليه هذه الأحكام الْمَوْت .

٥- بَعْد كِتَابِه الملَك رِزْقِه وَآجِلِه وَذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدِ ، لَا تَكُونُ مَعْرِفَةً الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ مَنْ عَلِمَ الْغَيْبِ الَّذِي يختصُّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ؛ لأنَّ الملَك قَدْ عُلِمَ ذَلِكَ ، فَيَكُونُ مِنْ الْمُمْكِنِ مَعْرِفَةَ كَوْنِ الْجَنِينِ ذكراً أَوْ أُنْثَى .

٦- أنَّ قدرَ اللَّهِ سَبَقَ بكلِّ مَا هُوَ كَائِنٌ ، وأنَّ المعتبرَ فِي السَّعَادَة وَالشَّقَاوَة مَا يَكُونُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ .

٧- أَحْوَالِ النَّاسِ بِالنِّسْبَةِ للبدايات والنهايات أَرْبَع :

الْأُولَى : مَن بدايتُه حَسَنَة ، وَنِهَايَتِه حَسَنَة .

الثَّانِيَة : مَن كَانَت بدايتُه سيِّئة ، ونهايتُه سيِّئة .

الثَّالِثَة : مَن كَانَت بدايتُه حَسَنَة ، وَنِهَايَتِه سيِّئة ، كَاَلَّذِي نَشَأ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ ، وَقَبْل الْمَوْت ارتدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَمَاتَ عَلَى الردَّة .

الرَّابِعَة : مَن بدايتُه سيِّئة ، ونهايتُه حَسَنَة ، كالسحرة الَّذِين مَعَ فِرْعَوْنَ ، الَّذِينَ آمَنُوا بربِّ هَارُون وَمُوسَى ، وكاليهودي الَّذِي يَخْدُم النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَادَة النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَأَسْلَمَ ، فَقَال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "الحمد لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النار" ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ (١٣٥٦) .

والحالتان الْأَخِيرَتَان دلَّ عَلَيْهِمَا هَذَا الْحَدِيثِ .

٨- دلَّ الْحَدِيثِ عَلَى أنَّ الإنسانَ يَعْمَل العملَ الَّذِي فِيهِ سَعَادَتُهُ أَو شَقَاوَتِه بِمَشِيئَتِه وَإِرَادَتِه ، وأنَّه بِذَلِكَ لَا يَخْرُجُ عَنْ مَشِيئَةٍ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ ، وَهُو مخيَّرٌ بِاعْتِبَار أنَّه يَعْمَل بِاخْتِيَارِه ، ومسيَّرٌ بِمَعْنَى أنَّه لَا يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يشأه اللَّه ، وَقَد دلَّ عَلَى الْأَمْرَيْنِ مَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أنَّه قَبْل

٩- أنَّ الإنسانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى خَوْفِ وَرَجَاء ؛ لأنَّ مِنْ النَّاسِ مَن يَعْمَل الْخَيْرُ فِي حَيَاتِهِ ثُمَّ يَخْتِمُ لَهُ بِخَاتَمِه السُّوء ، وأنَّه لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْطَعَ الرَّجَاء ؛ فإنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُعْمَلُ بِالْمَعَاصِي طويلاً ، ثُمّ يَمنُّ اللهُ عَلَيْه بِالْهُدَى فَيَهْتَدِي فِي آخِرِ عُمُرِهِ .

١٠- قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ : "فإن قِيل : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } ، ظَاهِرِ الْآيَةِ أنَّ العملَ الصَّالِحِ مِنَ الْمُخْلِصُ يُقبل ، وَإِذَا حَصَلَ الْقَبُولُ بِوَعْد الْكَرِيم أَمِنَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ ، فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ معلَّقاً عَلَى شُرُوطِ الْقَبُول وَحُسْن الْخَاتِمَة ، ويُحتمل أَنَّ مَنْ آمَنَ وَأَخْلِصْ الْعَمَلَ لَا يُختم لَه دائماً إلاَّ بِخَيْر .

ثَانِيهِمَا : أنَّ خَاتِمَةٌ السُّوء إنَّما تَكُونُ فِي حقِّ مَنْ أَسَاءَ الْعَمَلَ أَوْ خَلَطَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِح الْمَشُوب بِنَوْعٍ مِنْ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ ، ويدلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْآخَرِ : "إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو للناس" ، أَيْ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ إصْلَاحِ ظَاهِرُهُ مَعَ فَسَادِ سَرِيرَتُه وَخُبْثِهَا ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أعلم" .

مِمَّا يُستفاد مِنْ الْحَدِيثِ :

١- بَيَان أَطْوَار خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي بَطْنِ أمِّه .

٢- أنَّ نَفْخِ الرُّوحِ يَكُونُ بَعْدَ مِائَةِ وَعِشْرِينَ يوماً ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ إنساناً .

٣- أنَّ من الملائكة مَن هو موَكَّل بالأرحام.

٤- الإيمان بالغيب.

٥- الإيمان بالقدر، وأنَّه سبق في كلِّ ما هو كائن.

٦- الحلف من غير استحلاف لتأكيد الكلام.

٧- أنَّ الأعمال بالخواتيم.

٨- الجمع بين الخوف والرجاء، وأنَّ على من أحسن أن يخاف سوء الخاتمة، وأنَّ مَن أساء لا يقنط من رحمة الله.

٩- أنَّ الأعمالَ سببُ دخول الجنة أو النار.

١٠ -أنَّ مَن كُتب شقيًّا لا يُعلم حاله في الدنيا، وكذا عكسه.

مرفق بصيغة بي دي إف
مرفق بصيغة وورد