رضاع النبي صل الله عليه وسلم
الوصف
رَضَاعُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-
كَانَتْ أَوَّلَ مَنْ أَرْضَعَتْهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- هِيَ أُمُّهُ آمِنَةُ، قِيلَ أرْضَعَتْهُ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ، وقِيلَ سَبْعًا، وقِيلَ تِسْعًا. ثُمَّ أرْضَعَتْهُ ثُوَيْبَةُ (1) لَبَنَ ابنٍ لَهَا يُقَالُ لَهُ "مَسْرُوحٌ" (2)، أَرْضَعَتْهُ أَيَّامًا، قَبْلَ أَنْ تَقْدُمَ حَلِيمَةُ السَّعْدِيَّةُ، وكانَتْ قَدْ أَرْضَعَتْ قَبْلَهُ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ (3) -رضي اللَّه عنه-، وأرْضَعَتْ بَعْدَهُ أبَا سَلَمَةَ بنَ عَبْدِ الأسَدِ المَخُزوِمِيَّ (4) -رضي اللَّه عنه-.
المراجع
(1) قال الحافظ في الفتح (10/ 181): ثويبةُ مَوْلاةُ أبي لهَبٍ، ذكرها ابن منده في الصحابة، وقال: اختلف في إسلامِهَا. وقال في الإصابة (8/ 60): وفي باب من أرضع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من طبقات ابن سعد (1/ 51) ما يدلُّ على أنها لم تُسْلِم، ولكن لا يدفع قول ابن منده بهذا. وقال أبو نعيم: لا نعلمُ أحدًا ذكر إسلامَهَا غيره. وقال ابن الجوزيِّ في صفة الصفوة (1/ 31): ولا نعلم أحدًا ذكر أنَّها أسلمت.(2) قال الحافظ في الإصابة (8/ 61): لم أقف في شيء من الطرق على إسلام ابنها مسروح، وهو محتمل.(3) هو حمزةُ بن عبدِ المطلب أبو عمَارَة، القُرشي الهاشمي، عَمُّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأخوه من الرَّضاعة، أرضعتهما ثُويبةُ مولاة أبي لهب، وُلِدَ قبل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بسنتين، وقيل: بأربع، وأسلم في السنة الثانية من البِعْثة ولازَمَ نَصْرَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهاجر معه، وشَهِدَ بدرًا، وقُتِلَ -رضي اللَّه عنه- على يَدِ وحشِيِّ بن حَرْبٍ في غزوة أُحد، وذلك في شوال من السنة الثالثة للهجرة، ودُفِنَ هو وعبد اللَّه بن جحش في قبرٍ واحِدٍ. انظر الإصابة (2/ 105).(4) هو عبد اللَّه بن عبد الأسدِ المخزومي السَّيد الكبير، من السابقين الأولين إلى الإِسلام، أسلم بعد عشرة أنفس، وكان أخو النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الرَّضاعةِ، وهو ابنُ عَمَّةِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمه بَرَّة بنتِ
فَكانَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعَمُّهُ حَمْزَةُ، وأبُو سَلَمَةَ إِخْوَةً مِنَ الرَّضَاعَةِ.
روَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: . . . قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: إنَّا نُحَدَّثُ أنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: "بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ؟ " (1)، قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: "لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي (2) في حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي، إنَّهَا لَابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أرْضَعَتْنِي وأبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةٌ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ ولَا أَخَوَاتِكُنَّ" (3).
ورَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ألَا تَتَزَوَّجُ ابْنَةَ حَمْزَةَ؟
فقَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّهَا لا تَحِلُّ لِي، إنَّهَا ابْنَةُ أخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، ويَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ ما يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" (4).
المراجع
(1) قال الحافظ في الفتح (10/ 179): هو استفهامُ اسْتِثْبَاتٍ لرَفْعِ الإِشْكَالِ، أو استفهامُ إنْكَارٍ، والمعنى أنها إنْ كَانَ بنت أبي سلمة مِنْ أمِّ سلمة، فيكون تحريمها مِنْ وَجْهَيْن: الأوَّل أنها رَبِيبَتُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، والثاني أنها ابْنَةُ أَخِيهِ منَ الرَّضَاعَةِ.(2) الرَّبِيبَةُ: بنت الزوجة من زوجٍ آخر. انظر النهاية (2/ 166).(3) أخرجه البخاري في صحيحه – كتاب النكاح – باب (21) – رقم الحديث (5101).(4) أخرجه البخاري في صحيحه—كتاب الشهادات – باب الشهادة على الأنساب. . . – رقم الحديث (2645) – وأخرجه في كتاب النكاح – باب (21) – رقم الحديث (5100) –
اسْتِرْضَاعُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- في بَنِي سَعْدٍ:
ثُمَّ الْتَمَسَ عَبْدُ المُطَّلِبِ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَرَاضِعَ عَلَى عَادَةِ أهْلِ مَكَّةَ الذِينَ كَانُوا يُؤْثِرُونَ إِذَا وُلِدَ لَهُمْ وَلَدٌ أَنْ يَلْتَمِسُوا لَهُ مُرْضِعَةً مِنَ البَادِيَةِ، وسَبَبُ الْتِمَاسِ المَرَاضِعِ لِأَوْلَادِهِمْ أُمُورٌ، ذكَرَهَا الإِمَامُ السُّهَيْلِيُّ فَمِنْهَا:
1 – لِيَنْشَأَ الطِّفْلُ في الأَعْرَابِ، فَيَكُونَ أفْصَحَ لِلِسَانِهِ.
2 – لِيَكُونَ أجْلَدَ (1) لِجِسْمِهِ، وأجْدَرَ أَنْ لا يُفَارِقَ الهَيْئَةَ المَعَدِّيَةَ، كمَا قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- اخْشَوْشِنُوا، وَاخْشَوْشِبُوا (2)، واخْلَوْلِقُوا، وتَمَعْدَدُوا (3) كَأَنَّكُمْ مَعَدّ (4)، وإيَّاكُمْ والتَّنَعُّمَ (5).
3 – حتَّى يَكُونَ أنْجَبَ لِلْوَلَدِ وأصْفَى لِلذِّهْنِ (6).
قَالَ الشَّيْخُ محمَّد الغَزَالِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وتَنْشِئَةُ الأوْلَادِ في البَادِيَةِ
المراجع
(1) الجَلَدُ: بفتح الجيم: القُوَّة. انظر النهاية (1/ 275).(2) اخشَوْشَبَ الرجل: إذا كان صُلبًا خَشِنًا في دينه، ومَلْبسه، ومَطْعمه، وجَميع أحواله. انظر النهاية (2/ 31).(3) يُقال: تَمَعْدَدَ الغُلام: إذا شَبَّ وغَلُظ. انظر النهاية (4/ 291).(4) مَعدّ: بفتح الميم وتشديد الدال: هي قبيلة معروفة، وكان أهلها أهل غِلَظ، وقَشَف. انظر النهاية (4/ 291).(5) أخرج قول عمر -رضي اللَّه عنه-: الطحاوي في شرح مشكل الآثار (5/ 339) – وإسناده صحيح.(6) انظر الرَّوْض الأُنُف (1/ 287)
لِيَمْرَحُوا في كَنَفِ الطَّبِيعَةِ، ويَسْتَمْتِعُوا بِجَوِّهَا الطَّلْقِ وشُعَاعِهَا المُرْسَلِ، أدْنَى إِلَى تَزْكِيَةِ الفِطْرَةِ، وإنْمَاءِ الأَعْضَاءِ والمَشَاعِرِ، وإطْلَاقِ الأَفْكَارِ والعَوَاطِفِ، . . . وكَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ التَّرْبِيَةِ يَوَدُّ لَوْ تَكُونُ الطَّبِيعَةُ هِيَ المَعْهَدُ الأَوَّلُ لِلطِّفْلِ حتَّى تَتَّسِقَ مَدَارِكُهُ مَعَ حَقَائِقِ الكَوْنِ الذِي وُجِدَ فِيهِ (1).
قَالَ أحْمَد شَوْقِي رَحِمَهُ اللَّهُ:
يا أفْصَحَ النَّاطِقِينَ الضَّادَ قَاطِبَةً ... حَدِيثُكَ الشَّهْدُ عِنْدَ الذَّائِقِ الفَهِمِ
حُلِّيتَ مِنْ عُطْلٍ جِيدَ البَيَانُ بِهِ ... فِي كُلِّ مُنْتَثِرٍ في حُسْنِ مُنْتَظِمِ
بِكُلِّ قَوْلٍ كَرِيمٍ أَنْتَ قَائِلُهُ ... تُحْيِي القُلُوبَ وتُحْيِي مَيِّتَ الهِمَمِ
إقْبَالُ المَرَاضِعِ:
أقْبَلَتِ المَرَاضِعُ مِنَ البَادِيَةِ يَلْتَمِسْنَ تَرْبِيَةَ أَوْلَادِ الأَشْرَافِ، فَاسْتَرْضَعَ عَبْدُ المُطَّلِبِ لِحَفِيدِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- امْرَأَةً مِنْ قَبِيلَةِ سَعْدِ بنِ بَكْرٍ، وهِيَ حَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ السَّعْدِيَّةُ (2)، وزَوْجُهَا الحَارِثُ بنُ عَبْدِ العُزَّى، المُكَنَّى بِأَبِي كَبْشَةَ مِنْ نَفْسِ القَبِيلَةِ.
المراجع
(1) فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي ص 60.(2) هي حَلِيمة بنتُ أبي ذؤيب السَّعدية من مُضَر، أرضعَتْ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثمَّ قَدِمت مع زوجها على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عَقِبَ حنين، فقام إليها، وبَسَطَ لها رِدَاءَهُ فجلست عليه، وأسلمت هي وزوجها الحارث رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما. انظر الإصابة (8/ 87)
قِصَّةُ حَلِيمَةَ في اسْتِرْضَاعِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-:
تَذْكُرُ حَلِيمَةُ قِصَّةَ رَضَاعِهَا لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فتَقُولُ: خَرَجَتْ مِنْ بَلَدِهَا مَعَ زَوْجِهَا، وابنٍ لَهَا صَغِيرٍ تُرْضِعُهُ، في نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بنِ بَكْرٍ، تَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ بِمَكَّةَ، قالَتْ: وذَلِكَ في سَنَةٍ شَهْبَاءَ (1)، لَمْ تُبْقِ لَنَا شَيْئًا، قَالَتْ: فَخَرَجْتُ عَلَى أتَانٍ (2) لِي قَمْرَاءَ (3)، مَعَنَا شَارِفٌ (4) لنَا وَاللَّهِ مَا تَبِضُّ بِقَطْرَةٍ (5)، ومَا نَنَامُ لَيْلَنَا أجْمَعَ مِنْ صَبِيِّنَا الذِي مَعَنَا، مِنْ بُكَائِهِ منَ الجُوعِ، ومَا فِي ثَدْيَيَّ مَا يُغْنِيهِ، ومَا فِي شَارِفِنا ما يُغَذِّيهِ ولَكِنَّا كُنَّا نَرْجُو الغَيْثَ، والفَرَجَ، فَخَرَجْتُ عَلَى أتَانِي تِلْكَ فَلَقَدْ أدَمْتُ الرَّكْبَ حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ضَعْفًا وعَجَفًا (6)، حتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ نَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ، فَمَا مِنَّا امْرَأَةٌ إلَّا وقَدْ عُرِضَ عَلَيْهَا رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَتَأْبَاهُ، إِذَا قِيلَ لَهَا أَنَّهُ يَتِيمٌ، وذَلِكَ أنَّا إِنَّمَا كُنَّا نَرْجُو المَعْرُوفَ مِنْ أَبِي الصَّبِيِّ، فكُنَّا نَقُولُ: يَتِيمٌ، ومَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ أمُّهُ وَجَدُّهُ؟ فكُنَّا نَكْرَهُهُ لِذَلِكَ، فَمَا بَقِيَتِ امْرَأَةٌ قَدِمَتْ مَعِي إلَّا أَخَذَتْ رَضِيعًا غَيْرِي، فَلَمَّا أَجْمَعْنَا الاِنْطِلَاقَ، والذَّهَابَ، قُلْتُ لِصَاحِبِي: وَاللَّهِ إنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرْجعَ مِنْ بَيْنِ صَوَاحِبِي، ولَمْ
المراجع
(1) سَنَةٌ شَهْبَاءُ: أي ذاتُ قَحْطٍ، وجَدْب، والشَّهْباء هي الأرض البَيْضاء التي لا خُضْرَة فيها لِقِلَّةِ المَطَر. النهاية (2/ 457).(2) الأتانُ: الحمارَة الأنثى خاصة. النهاية (1/ 25).(3) القَمْرَاءُ: أي الشديدُ البياض. النهاية (4/ 93).(4) الشَّارِفُ: هي الناقة المُسِنَّةُ. النهاية (2/ 415).(5) ما تَبِضُّ بقَطْرَةٍ: أي ما يَقْطُرُ منها لبن. النهاية (1/ 131).(6) العَجَفُ: أي الهُزَالُ. النهاية (3/ 169)
آخُذْ رَضِيعًا، وَاللَّهِ لَأَذْهَبَنَّ إِلَى ذَلِكَ اليَتِيمِ فَلَآخُذَنَّهُ، قَالَ: لا عَلَيْكِ أَنْ تَفْعَلِي، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا فِيهِ بَرَكَةً.
قَالَتْ: فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ فأخَذْتُهُ، ومَا حَمَلَنِي عَلَى أَخْذِهِ إلَّا أنِّي لَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ.
قالَتْ: فَلَمَّا أَخَذْتُهُ، رَجَعْتُ بِهِ إِلَى رَحْلِي، فَلَمَّا وَضَعْتُهُ في حِجْرِي أَقْبَلَ عَلَيْهِ ثَدْيَايَ بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ حتَّى رَوِيَ، وشَرِبَ مَعَهُ أخُوهُ حَتَّى رَوِيَ، ثُمَّ نَامَا، ومَا كُنَّا نَنَامُ مَعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وقَامَ زَوْجِي إِلَى شَارِفِنَا تِلْكَ، فَإِذَا هِيَ حَافِلٌ (1) فَحَلَبَ مِنْهَا وشَرِبَ، وشَرِبْتُ مَعَهُ حتَّى انْتَهَيْنَا رِيًّا وشِبَعًا، فَبِتْنَا بِخَيْرِ لَيْلَةٍ، قَالَتْ: يَقُولُ صَاحِبِي حِينَ أصْبَحْنَا: تَعْلَمِي واللَّهِ يا حَلِيمَةُ، لَقَدْ أخَذْتِ نَسَمَةً مُبَارَكَةً، قالَتْ: فقُلْتُ واللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو ذَلِكَ، قالَتْ: ثُمَّ خَرَجْنَا ورَكِبْتُ أتَانِي، وحَمَلْتُهُ عَلَيْهَا مَعِي، فَوَاللَّهِ لَقَطَعْتُ بِالرَّكْبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ حُمُرِهِمْ حتَّى إِنَّ صَوَاحِبِي لَيَقُلْنَ لِي: يَا ابْنَةَ أَبِي ذُؤَيْبٍ، وَيْحَكِ أَرْبِعِي عَلَيْنَا (2)، أَلَيْسَتْ هَذِهِ أتَانُكِ التِي كُنْتِ خَرَجْتِ عَلَيْهَا؟
فأَقُولُ لَهُنَّ: بَلَى وَاللَّهِ، إنَّهَا لَهِيَ هِيَ، فَيَقُلْنَ: وَاللَّهِ إِنَّ لَهَا لَشَأْنًا.
قَالَتْ: ثُمَّ قَدِمْنَا مَنَازِلَنَا مِنْ بِلَادِ بَنِي سَعْدٍ، ومَا أَعْلَمُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ اللَّهِ أَجْدَبَ (3) مِنْهَا، فَكَانَتْ غَنَمِي تَرُوحُ عَلَيَّ حِينَ قَدِمْنَا بهِ مَعَنَا شِبَاعًا لُبّنًا،
المراجع
(1) نَاقَةٌ حَافِلٌ: أي كثيرة اللبن. النهاية (1/ 393).(2) أرْبِعِي: أي ارفُقِي واقْتَصِري. النهاية (2/ 172).(3) يُقال أرضٌ جَدْبَاء: أي لا نَبَات بها. انظر النهاية (1/ 235)
فَنَحْلِبُ ونَشْرَبُ، ومَا يَحْلِبُ إنْسَانٌ قَطْرَةَ لَبَنٍ، ولَا يَجِدُهَا في ضَرْعٍ، حَتَّى كَانَ الحَاضِرُونَ مِنْ قَوْمِنَا يَقُولُونَ لِرُعْيَانِهِمْ: وَيْلَكُمْ اسْرَحُوا حَيْثُ يَسْرَحُ رَاعِي بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ فَتَرُوحُ أغْنَامُهُمْ جِيَاعًا مَا تَبِضُّ بِقَطْرَةِ لَبَنٍ، وتَرُوحُ غَنَمِي شِبَاعًا لُبّنًا (1).
فَهَذِهِ مِنْ بَرَكَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ، وزَوْجِهَا الحَارِثِ.
ولَمْ يَزَلِ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَ حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ حتَّى مَضَتْ سَنَتَاهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وفَطَمَتْهُ
أخرج قِصَّةَ استِرْضَاعِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بادِيَةِ بَنِي سعد: ابن حبَّان في صحيحه – رقم الحديث (6335) بإسناد منقطع – وابن إسحاق في السيرة (1/ 199) وجَوّد إسناده الذهبي في سيرته (1/ 52). وضعف الألباني هذا الخبر في كتابه "دِفَاعٌ عن الحديثِ النَّبوي والسيرة". قُلت: وهناك شواهد كثيرة وثابتة، تدل على استرضاع الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في بادية بني سعد منها: * ما رواه مسلم في صحيحه – رقم الحديث (162) (261) – في قصة شقِّ صدره -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو غُلام، وهي تتفق مع رواية الإمام أحمد في مسنده – رقم الحديث (17648) – والحاكم في المستدرك – رقم الحديث (4288) – وابن إسحاق (1/ 201) بسند حسن في شق صدره -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو مُسْتَرضَعٌ في بادية بني سعد. * ومنها ما رواه ابن إسحاق في السيرة (1/ 203) – وأورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 679) بَسَندٍ جيِّد قَوِي، عن خالد بن مَعْدان، عن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قالوا: يا رسول اللَّه أخبرنا عن نفسك؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعم أنا دَعْوة أَبِي إبراهيم، وبُشرى عِيسى عليهِ السَّلامُ، ورأتْ أمِّي حيثُ حَمَلت بي أنَّه خرَج منها نُورٌ أضاءَتْ لهُ قُصُور الشَّام، واستُرْضِعْتُ في بَنِي سعدِ بن بَكْرٍ. . .". * ومنها ما رواه ابن إسحاق في السيرة (4/ 141) بسند حسن في قِصَّة قُدُوم وفْدِ هَوَازِن إلى الرسول وهو بالجِعرانة مُنْصَرَفَهُ من حُنين، ولفظه: . . . فقام رجل من هَوَازن، ثُمَّ أَحَدُ بني سعد بن بكر، فقال: يا رسول اللَّه، إنَّما في الحَظَائِرِ -أي الأسر- عَمَّاتُكَ وخَالاتُكَ وحَوَاضِنُكَ اللاتي كُنَّ يَكْفَلْنَكَ
وَكَانَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَشِبُّ شَبَابًا لا يُشْبِهُ الغِلْمَانَ فَلَمْ تَبْلُغْ سَنَتَيْهِ حتَّى كَانَ غُلَامًا كَأَنَّهُ ابنُ أرْبَعِ سِنِينَ.
قَالَتْ حَلِيمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ تَعَالَى يُرِيَنَا البَرَكَةَ ونَتَعَرَّفُهَا، حتَّى بَلَغَ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَنَتَيْنِ، فَكَانَ يَشِبُّ شَبَابًا لا يَشِبُّهُ الغِلْمَانُ (1).
وَقَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ: فَكَانَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَشِبُّ في يَوْمِهِ شَبَابَ الصَّبِيِّ في الشَّهْرِ ويَشِبُّ في الشَّهْرِ شَبَابَ الصَّبِيِّ في سَنَةٍ (2).
قَالَ البَرْدُونِيُّ:
وَشَبَّ طِفْلُ الْهُدَى المَنْشُودِ مُتَّزِرًا ... بِالْحَقِّ مُتَّشِحًا (3) بِالنُّورِ وَالنَّارِ
فِي كَفِّهِ شُعْلَةٌ تَهْدِي وفِي فَمِهِ ... بُشْرَى وفِي عَيْنَيْهِ إِصْرَارُ أَقْدَارِ
وفِي مَلَامِحِهِ وَعْدٌ وفِي دَمِهِ ... بُطُولَةٌ تَتَحَدَّى كُلَّ جَبَّارِ (4)
قالَتْ حَلِيمَةُ: فَقَدِمْنَا بهِ عَلَى أُمِّهِ زَائِرِينَ لَهَا، ونَحْنُ أحْرَصُ شَيْءٍ عَلَى مُكْثِهِ فِينَا، لِمَا كُنَّا نَرَى مِنْ بَرَكَتِهِ، فكَلَّمْنَا أُمَّهُ، وقُلْتُ لَهَا: لَوْ تَرَكْتِ بُنَيَّ عِنْدِي حتَّى يَغْلَظَ، فإنِّي أخْشَى عَلَيْهِ وَبَاءَ مَكَّةَ.
المراجع
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ – باب صفته -صلى اللَّه عليه وسلم- وأخباره – رقم الحديث (6335) – وإسناده منقطع، لكن للقصَّة شواهد كثيرةٌ ثابتةٌ صحيحةٌ كما مَرَّ قبل قليل.(2) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة للذهبي (1/ 51).(3) تَوَشَّحَ الرجل بِثَوبِهِ: إذا لبسه. انظر لسان العرب (15/ 306).(4) انظر ديوان البردوني ص 507
قَالَتْ حَلِيمَةُ: فَلَمْ نَزَلْ بِهَا حتَّى رَدَّتْهُ مَعَنَا (1).
وَهَكَذَا عَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى بَادِيَةِ بَنِي سَعْدٍ.
* * *
المراجع
(1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 201) – السِّيرة النَّبوِيَّة للذهبي (1/ 51) – وجود الذهبي إسناده