خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ

خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ
105 0

الوصف

مِن خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: 

سَلامةُ المَصدَرِ

عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ مُعتَمِدةٌ على الكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ السَّلَفِ فحَسْبُ، كما أنَّها تتميَّزُ باتِّصالِ سنَدِها بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والصَّحابةِ والتَّابعين وأئمَّةِ الهدى.

وهذه الخاصيَّةُ لا توجَدُ في مذاهبِ أهلِ الكلام والصوفيَّةِ الذين يعتَمِدونَ على العَقلِ والنَّظَرِ، أو على الكَشْفِ والحَدْسِ والإلهامِ والوَجْدِ، أو عن طريقِ أشخاصٍ يَزعُمونَ لهم العِصمةَ، وليسوا بأنبياءَ، أو يدَّعون لهم الإحاطةَ بعِلمِ الغَيبِ مِن أئمَّةٍ أو رُؤساءَ أو أولياءَ أو أقطابٍ أو أغواثٍ أو غَيرِهم، أو يزعُمونَ أنَّه يسَعُهم العَمَلُ بأنظِمةِ البشَرِ وقَوانينِهم المخالفةِ لشريعةِ اللهِ سبحانه.

من خَصائصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: قِيامُها على التَّسليمِ للهِ ولِرَسولِه

عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ قائِمةٌ على التَّسليمِ لله تعالى، ولِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّها غيبٌ، والتَّسليمُ بالغَيبِ مِن صِفاتِ المؤمِنينَ التي مدَحَهم اللهُ بها، كما قالَ سبحانه: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 2، 3].

والغَيبُ أمرٌ لا تُدرِكُه العقولُ ولا تُحيُط به، ومن هنا فأهلُ السُّنَّةِ يَقِفون في أمرِ العَقيدةِ على ما جاء عن اللهِ سبحانه وعن رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخِلافِ أهلِ البِدَعِ والكَلامِ؛ فهم يخوضون في ذلك رجمًا بالغَيبِ، وأنَّى لهم أن يُحيطوا بعِلمِ الغَيبِ؟! فلا هم أراحوا عُقولَهم بالتَّسليمِ، ولا عَقائِدَهم وذِمَمَهم بالاتِّباعِ، ولا تركوا عامَّةَ أتباعِهم على الفِطرةِ التي فَطَرَهم اللهُ عليها!

من خَصائِصِ عقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ: 

الوضوحُ والبيانُ

تمتازُ عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ بالوُضوحِ والبيانِ؛ فهي خاليةٌ من التعارُضِ، وسالِمةٌ من التَّناقُضِ والغُموضِ، والفَلسفةِ والتعقيدِ في ألفاظِها ومعانيها؛ لأنها مُستَمَدَّةٌ من كلامِ الله المُبِينِ، ومن كلامِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي لا يَنطِقُ عن الهوى، في حينِ أنَّ المعتَقَداتِ الأُخرى هي من تخليطِ البشَرِ أو تأويلِهم وتحريفِهم؛ ولذلك تأتي مُبهَمةً وغامِضةً، وتكونُ مَليئةً بالتَّناقُضاتِ.

وأصدقُ مِثالٍ على ذلك: ما حَصَل لعَدَدٍ من أئمَّةِ عِلمِ الكَلامِ والفَلسَفةِ والتصَوُّفِ؛ من اضطرابٍ وتقلُّبٍ ونَدَمٍ؛ بسبَبِ مجانبَتِهم لعَقيدةِ السَّلَفِ، ورُجوعِ كثيرٍ منهم إلى التَّسليمِ، وتقريرِ ما يعتَقِدُه السَّلَفُ، خاصَّةً عند التقَدُّمِ في السِّنِّ، أو عندَ الموتِ(1).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يُنظر: ((المفهم)) للقرطبي (6/ 691 - 694)، ((الروض الباسم)) لابن الوزير (2/ 343 - 349)، ((التحف في مذاهب السلف)) للشوكاني (ص: 28).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

من خصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: البقاءُ والثَّباتُ والاستِقرارُ

عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ مُستقِرَّةٌ ومحفوظةٌ رِوايةً ودرايةً، في ألفاظِها ومعانيها، تتناقَلُها الأجيالُ جيلًا بعد جِيلٍ، لم يتطرَّقْ إليها التَّبديلُ ولا التَّحريف، ولا الزِّيادةُ ولا النَّقْصُ. ومن أسبابِ ذلك: أنَّها مُستَمَدَّةٌ مِن كتابِ اللهِ الذي لا يأتيه الباطِلُ من بينِ يَدَيه ولا مِنْ خَلْفِه، ومِن سُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي لا يَنطِقُ عن الهوى، وقد تلقَّاها الصَّحابةُ ثمَّ التَّابِعونَ، وتابِعوهم، وأئمَّةُ الهدى المستَمسِكونَ بهَدْيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى اليَومِ، روايةً ودرايةً، تلقينًا وكتابةً.

 

من خصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: العَقلانيَّةُ

يُقصَدُ بالعقلانيَّةِ الموافَقةُ للعَقلِ الصَّريحِ.

قال ابنُ تَيميَّةَ: (والأنبياءُ صَلواتُ اللهِ عليهم وسَلامُه مَعصومونَ، لا يقولونَ على اللهِ إلَّا الحَقَّ، ولا يَنقلونَ عنه إلَّا الصِّدقَ، فمَنِ ادَّعى في أخبارِهم ما يُناقِضُ صريحَ المعقولِ، كان كاذِبًا، بل لا بُدَّ أن يكونَ ذلك المعقولُ ليس بصَريحٍ، أو ذلك المنقولُ ليس بصَحيحٍ، فما عُلِمَ يقينًا أنَّهم أخبَروا به يمتَنِعُ أن يكونَ في العَقلِ ما يُناقِضُه، وما عُلِم يقينًا أنَّ العَقلَ حَكَم به يمتَنِعُ أن يكونَ في أخبارِهم ما يُناقِضُه، بل الأنبياءُ عليهم السَّلامُ قد يُخبِرونَ بما يَعجِزُ العَقلُ عن مَعرفتِه، لا بما يَعلَمُ العَقلُ بُطلانَه، فيُخبِرونَ بمحاراتِ العُقولِ، لا بمُحالاتِ العُقولِ)(1).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يُنظر: ((الجواب الصحيح)) (4/400.

  

مِن خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ:

 الفِطريَّةُ

عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ سهلةٌ لا عُسرَ فيها ولا تعقيدَ، فهي موافقةٌ للفطْرةِ. قال الله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30].

قال ابنُ كثير رحمه الله: (فإنَّه تعالى فَطَر خَلْقَه على معرفتِه وتوحيدِه، وأنَّه لا إلهَ غيرُه)(1).

وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:((كُلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ، فأبواه يُهَوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يمَجِّسانِه، كمَثَلِ البَهيمةِ تُنتَجُ البهيمةَ، هل ترى فيها جَدْعاءَ؟))(2).

فالإيمانُ فِطريٌّ عند أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ؛ فالمقلِّدون من العوامِّ الذين ليس لهم أهليَّةُ النَّظَرِ والاستدلالِ مُسلِمونَ وإن عجزوا عن إقامةِ الأدِلَّةِ، وإيضاحِ البراهينِ. وقد وردت النُّصوصُ وأقوالُ السَّلَفِ وأهلِ السُّنَّةِ بالنَّهيِ عن الغلوِّ والتَّشدُّدِ في أمرِ الدِّينِ أصولًا وفُروعًا، والنَّهيِ عن التكَلُّفِ في طَلَب علمِ ما حُجِبَ عِلمُه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/313).

(2) أخرجه البخاري (1385) واللفظ له، ومسلم(2658).

من خصائِصِ عقيدةِ أهلِ السُّنَّة والجماعةِ: 

الشُّموليَّةُ

يتَّضِحُ شمولُ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في الأُمورِ الثَّلاثةِ الآتية:

الأوَّلُ: شمولُ العبادةِ، فالعبادةُ: اسمٌ جامعٌ لكُلِّ ما يحبُّه اللهُ ويرضاه من الأقوالِ والأفعالِ الظَّاهرةِ والباطِنةِ.

فالعِبادةُ تَشمَلُ العباداتِ القَلبيَّةَ؛ كالمحبَّةِ، والخوفِ، والرَّجاءِ، والتوكُّلِ، وتَشمَلُ العباداتِ القوليَّةَ؛ كالذِّكرِ، والأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن المنكَرِ، وقراءةِ القُرآنِ، وتَشمَلُ العباداتِ الفِعليَّةَ؛ كالصَّلاةِ، والصَّومِ، والحَجِّ، وتَشمَلُ العباداتِ الماليَّةَ؛ كالزَّكاةِ، وصَدَقةِ التطَوُّعِ.

وتَشمَلُ كذلك الشَّريعةَ كُلَّها؛ فإنَّ العبدَ إذا اجتَنَب المحرَّماتِ، وفَعَل الواجباتِ والمندوباتِ والمباحاتِ مبتغيًا بذلك وَجْهَ الله تعالى، كان فِعْلُه ذلك عبادةً يثابُ عليها. الثَّاني: أنَّها تَشمَلُ عَلاقةَ العَبدِ برَبِّه، وعلاقةَ الإنسانِ بغَيرِه مِنَ البَشَرِ، وذلك في مباحثِ التَّوحيدِ بأنواعِه الثَّلاثةِ، وفي مَبحَثِ الوَلاءِ والبراءِ وغَيرِها.

الثَّالِثُ: أنَّها تَشمَلُ حالَ الإنسانِ في الحياةِ الدُّنيا، وفي الحياةِ البَرزخَّيةِ (القَبرِ)، وفي الحياةِ الأُخرويَّةِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مِن خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ:

الوَسَطيَّ

عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ وسَطٌ بين عقائِدِ فِرَقِ الضَّلالِ؛ ففي كُلِّ بابٍ مِن أبوابِ العَقيدةِ هي وسَطٌ بين فريقينِ آراؤُهما متضادَّةٌ، أحدُهما غلا في هذا البابِ، والآخَرُ قَصَّرَ فيه.

قال ابنُ القَيِّمِ: (لا تجِدُ أهلَ الحَقِّ دائمًا إلَّا وسَطًا بين طرفيِ الباطِلِ، وأهلُ السُّنَّةِ وسَطٌ في النِّحَلِ، كما أنَّ المُسلِمينَ وَسَطٌ في المِلَلِ)(1).

وهذه خمسةُ أُصولٍ عَقَديَّةٍ، يتبيَّنُ منها وسطيَّةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ بَيْنَ الفِرَقِ الأُخرى:

الأصل الأوَّلُ:

 بابُ العباداتِ

توسَّط أهلُ السُّنَّةِ في هذا البابِ بَيْنَ الرَّافضةِ والصُّوفيَّةِ، وبين الدُّروزِ والنُّصَيريِّينَ. فالرَّافِضةُ والصُّوفيَّةُ يَعبُدونَ اللهَ بما لم يَشرَعْه مِنَ الأذكارِ والتوسُّلاتِ، وإقامةِ الأعيادِ والاحتِفالاتِ البِدْعيَّةِ، والبِناءِ على القُبورِ، والصَّلاةِ عِندَها، والطَّوافِ بها، والذَّبحِ عِندَها، وكثيرٌ منهم يَعبُدُ أصحابَ القُبورِ بالذَّبحِ لهم، أو دُعائِهم بأن يَشفَعوا له عِندَ اللهِ، أو يَجلِبوا له مَرغوبًا، أو يَدفَعوا عنه مَرهوبًا.

والدُّروزُ والنُّصَيريُّونَ -الذين يُسَمَّونَ العَلَويِّينَ- تَركوا عبادةَ اللهِ بالكُلِّيَّةِ؛ فلا يُصَلُّونَ، ولا يَصومون، ولا يزكُّونَ، ولا يحجُّونَ... إلخ.

أمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ فيَعبُدونَ اللهَ بما جاء في كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يَترُكوا ما أوجَبَ اللهُ عليهم من العباداتِ، ولم يَبتَدِعوا عباداتٍ من تِلقاءِ أنفُسِهم(2)  ؛ عَمَلًا بقَولِ الله تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: 3]، وبقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن أحدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس منه، فهو رَدٌّ))(3) ، وفي روايةٍ: ((مَن عَمِلَ عَمَلًا ليس عليه أمرُنا، فهو رَدٌّ))(4) ، وقَولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في خُطبتِه: ((أمَّا بَعدُ، فإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهَدْيِ هَدْيُ محمَّدٍ، وشرَّ الأمورِ مُحدَثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ))(5).

الأصلُ الثَّاني:

 بابُ أسماءِ اللهِ وصِفاتِه

توسَّط أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ في هذا البابِ بَيْنَ المعَطِّلةِ وبين المَمَثِّلةِ. فالمُعَطِّلةُ منهم من يُنكِرُ الأسماءَ الحُسْنَى والصِّفاتِ الإلهيَّةَ، كالجَهْميَّةِ. ومنهم من يُنكِرُ الصِّفاتِ، كالمعتَزِلةِ.

ومنهم من يُنكِرُ أكثَرَ الصِّفاتِ ويؤَوِّلها، كالأشاعِرةِ.

وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ فإنَّهم يُؤمِنونَ بجَميعِ أسماءِ اللهِ وصِفاتِه الثَّابتةِ في النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ، فيُسمُّون اللهَ سُبحانَه بأَسمائِه الحُسْنَى، ولا يُلحِدونَ فيها، ويَصِفون اللهَ تعالى بما وَصَف به نَفْسَه، وبما وصَفَه به أعرَفُ الخَلقِ به؛ رسولُه محمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، من غيرِ تَعطيلٍ ولا تأويلٍ، ومِن غيرِ تمثيلٍ ولا تكييفٍ، ويؤمِنونَ بأنَّها صِفاتٌ حقيقيَّةٌ تليقُ بجَلالِ اللهِ تعالى، ولا تُماثِلُ صفاتِ المخلوقينَ، عملًا بقَولِه تعالى:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11](6).

الأصلُ الثَّالِثُ:

 بابُ القَضاءِ والقَدَرِ

توسَّط أهلُ السُّنَّة والجماعةِ في هذا البابِ بين القَدَريَّة والجَبريَّةِ.

فالقَدَريَّةُ نَفَوا القَدَرَ، فقالوا: إنَّ أفعالَ العِبادِ وطاعاتِهم ومَعاصيَهم لم تدخُلْ تحتَ قضاءِ الله وقَدَرِه، فاللهُ تعالى -على زَعْمِهم- لم يخلقْ أفعالَ العبادِ، ولا شاءَها منهم، بل العِبادُ مُستَقِلُّونَ بأفعالِهم، فالعبدُ على زَعْمِهم هو الخالِقُ لفِعْلِه، وهو المريدُ له إرادةً مُستقلَّةً، فأثبتوا خالِقًا مع اللهِ سُبحانَه، وهذا إشراكٌ في الرُّبوبيَّةِ، ففيهم شَبَهٌ من المجوسِ الذين قالوا بأن َّللكونِ خالقَينِ، فهم (مجوسُ هذه الأمَّةِ).

والجَبْريَّةُ غَلَوا في إثباتِ القَدَرِ، فقالوا: إنَّ العبدَ مجبورٌ على فِعْلِه، فهو كالرِّيشةِ في الهواءِ، لا فِعْلَ له، ولا قُدرةَ، ولا مَشيئةَ.

فهدى اللهُ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ للقَولِ الحقِّ والوسَطِ في هذا البابِ؛ فأثبَتوا أنَّ العِبادَ فاعِلونَ حَقيقةً، وأنَّ أفعالَهم تُنسَبُ إليهم على جِهةِ الحقيقةِ، وأنَّ فِعلَ العَبدِ واقعٌ بتَقديرِ اللهِ ومَشيئتِه وخَلْقِه؛ فاللهُ تعالى خالقُ العبادِ وخالِقُ أفعالِهم، كما قال سُبحانَه:﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 96]، كما أنَّ للعِبادِ مَشيئةً تحتَ مَشيئةِ اللهِ، كما قال اللهُ تعالى:﴿ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 29](7).

الأصلُ الرَّابِعُ:

 بابُ الوَعدِ والوَعيدِ

توسَّطَ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ في هذا البابِ بيْن الوعيديَّةِ وبيْن المُرجِئةِ.

فالوعيديَّةُ يُغَلِّبونَ نُصوصَ الوَعيدِ على نُصوصِ الوَعدِ، ومنهم الخوارجُ الذين يَرَون أنَّ فاعِلَ الكبيرةِ من المُسلِمينَ -كالزَّاني وشاربِ الخَمرِ- كافرٌ مخلَّدٌ في النَّارِ.

والمُرجِئةُ غَلَّبوا نصوصَ الرَّجاءِ على نُصوصِ الوَعيدِ، فقالوا: إنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ القَلبيُّ، وأنَّ الأعمالَ ليست من الإيمانِ، فلا يضُرُّ مع الإيمانِ مَعصيةٌ، فالعاصي كالزَّاني وشارِبِ الخَمرِ لا يستحِقُّ دخولَ النَّارِ، وإيمانُه كإيمانِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما!

أمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ فيَرَونَ أنَّ المسلمَ إذا ارتكب معصيةً من الكبائِرِ لا يخرجُ من الإسلامِ، بل هو مُسلِمٌ ناقِصُ الإيمانِ، ما دام لم يرتكِبْ شيئًا من المكفِّراتِ، فهو مؤمِنٌ بإيمانِه، فاسِقٌ بكبيرتِه، وهو في الآخرةِ تحتَ مَشيئةِ اللهِ؛ إن شاء اللهُ عفا عنه، وإن شاء عذَّبه حتَّى يطَهِّرَه من ذُنوبِه، ثمَّ يُدخِلَه الجنَّةَ بِرَحْمتِه، ولا يُخَلَّدُ في النَّارِ إلَّا مَن كَفَر باللهِ تعالى أو أشرَكَ به، كما قال تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 116](8).

الأصلُ الخامِسُ:

 بابُ أصحابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم

توسَّط أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ في هذا البابِ بين الشِّيعةِ وبَيْنَ الخوارِجِ.

فالشِّيعةُ غَلَوا في حَقِّ آلِ البيتِ، كعليِّ بنِ أبي طالبٍ وأولادِه رَضِيَ اللهُ عنهم، فادَّعَوا أنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عنه معصومٌ، وأنَّه يَعلَمُ الغيبَ، وأنَّه أفضلُ من أبي بكرٍ وعُمَرَ، ومِن غُلاتِهم من يدَّعي ألوهيَّتَه!

والخوارجُ جَفَوا في حقِّ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، فكَفَّروه، وكفَّروا معاويةَ بنَ أبي سُفيانَ رَضِيَ اللهُ عنهما، وكَفَّروا كلَّ من لم يكُنْ على طريقتِهم.

كما أنَّ الرَّوافِضَ جَفَوا في حقِّ أكثَرِ الصَّحابةِ، فسَبُّوهم، وقالوا: إنَّهم كُفَّار! وإنَّهم ارتدُّوا بعد النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا يستثنون من الصَّحابةِ إلَّا آلَ البَيتِ ونَفَرًا قليلًا، قالوا: إنَّهم من أولياءِ آلِ البيتِ، كما أنَّهم يشتُمون علانيةً أمَّهاتِ المؤمِنينَ، وأفاضِلَ الصَّحابةِ، حتى أبو بكرٍ وعُمَرُ رضي اللهُ عنهما!

أمَّا أهلُ السُّنَّة والجماعةِ فيُحِبُّون جميعَ أصحابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويترضَّون عنهم، ويَرَون أنَّهم أفَضُل هذه الأمَّةِ بعد نبيِّها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ اللهَ اختارهم لصُحبةِ نبيِّه، ويُمسِكونَ عمَّا حصَلَ بينهم من التَّنازُعِ، ويرونَ أنَّهم مجتَهِدون مأجورون، للمُصيبِ منهم أجرانِ، وللمُخطئِ أجرٌ واحدٌ على اجتهادِه، ويرون أنَّ أفضلَهم أبو بكرٍ، ثمَّ عُمَرُ، ثم عثمانُ، ثم عليٌّ، رَضِيَ اللهُ عنهم أجمعين، ويحبُّون آلَ بيتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويرون أنَّ لهم حقَّين: حقَّ الإسلامِ، وحَقَّ القرابةِ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيوالونَهم، ويترضَّونَ عنهم(9).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) (2/243).

(2) يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/371).

(3) أخرجه البخاري (2695) ، ومسلم (1718) من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ الله عنها.

(4) أخرجه مسلم (1718) ، وأخرجه البخاري معلَّقًا بصيغة الجزم قبل حديث (7350) من حديث عائشةَ رَضِيَ الله عنها.

(5) أخرجه مسلم (867) من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه.

(6) يُنظر: ((العقيدة الواسطية)) لابن تيمية (ص: 57) ، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/ 790).

(7) يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/374).

(8) يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/374).

(9) يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/375).

مرفق بصيغة بي دي إف
مرفق بصيغة وورد