دلالة الشرع والعقل علي الرب سبحانه

دلالة الشرع والعقل علي الرب سبحانه
105 0

الوصف

دلالة الشرع والعقل علي الرب سبحانه

دَلالةُ الشَّرعِ

قال ابنُ القَيِّمِ: (هذه الطَّريقُ من أقوى الطُّرُقِ وأصَحِّها وأدَلِّها على الصَّانِعِ وصِفاتِه وأفعالِه، وارتِباطُ أدلَّةِ هذه الطَّريقِ بمدلولاتِها أقوى مِن ارتِباطِ الأدِلَّةِ العَقليَّةِ الصَّريحةِ بمَدلولاتِها؛ فإنَّها جمَعَت بيْن دَلالةِ الحِسِّ والعَقلِ، ودَلالتُها ضروريةٌ بنَفْسِها؛ ولهذا يسَمِّيها اللهُ سُبحانَه آياتٍ بَيِّناتٍ، وليس في طُرُقِ الأدِلَّةِ أوثَقُ ولا أقوى منها)(1) .

 وبيانُ هذه الطَّريقِ مِن وَجهَينِ: 

الوَجهُ الأوَّلُ: المُعجِزاتُ: فقد أرسَلَ اللهُ تعالى رُسُلَه بالوَحيِ، وأيَّدهم بالمُعجِزاتِ تَصديقًا لهم، وإذا جاء الرَّسولُ بآيةٍ تدُلُّ على صِدْقِه فقد ثبَتَت الرِّسالةُ، وتَثبُت الرُّبوبيَّةُ بذلك ضِمْنًا؛ لأنَّها حَدَثٌ من جِنسٍ لا يَقدِرُ على مِثْلِه البَشَرُ. قال اللهُ تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ [الحديد: 25]. 

وقال اللهُ سُبحانَه عن آيتَيِ العَصا واليَدِ اللَّتَينِ أُرسِلَ بهما موسى عليه السَّلامُ: ﴿ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ [القصص: 32]. فقد دعا موسى عليه السَّلامُ فِرعَونَ بهذينِ البُرهانَينِ العََظيمينِ، فقال له: ﴿ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ﴾ [الشعراء: 30]. وقال اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [هود: 13-14] ، وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (( ما من الأنبياءِ مِن نبيٍّ إلَّا قد أُعطِيَ مِنَ الآياتِ ما مِثلُه آمَنَ عليه البَشَرُ، وإنَّما كان الذي أُوتيتُ وحيًا أوحاه اللهُ إليَّ، فأرجو أن أكونَ أكثَرَهم تابعًا يومَ القيامةِ))(2). فبمُعجِزةِ القُرآنِ تَثبُتُ وتتقَرَّرُ الرِّسالةُ والوَحْدانيَّةُ، ومعلومٌ أنَّ توحيدَ الأُلوهيَّةِ مُتضَمِّنٌ لتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، فإذا ثَبَت الأوَّلُ ثَبَت الثَّاني ضِمنًا(3). 

الوَجهُ الثَّاني: العُلومُ والأحكامُ المُتضَمِّنةُ لمصالِحِ الخَلْقِ: 

أوَّلًا: العُلومُ: اتَّفَق الرُّسُلُ جميعًا على الإخبارِ بأشياءَ مُعَيَّنةٍ، ومِن ذلك: دَعوتُهم جميعًا إلى عبادةِ إلهٍ واحِدٍ، وكذلك بِشارةُ موسى وعيسى برِسالةِ رَسولِنا محمَّدٍ، عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، مِن غيرِ تَواطُؤٍ منهم على الاتِّفاقِ على ذلك، مع بُعدِ الأزمِنةِ والأمكِنةِ، وقد قَصَّ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبارَ الأُمَمِ الماضِينَ مع القَطْعِ بأنَّه كان يَعيشُ في أمَّةٍ أمِّيَّةٍ، وأخبَرَ في القُرآنِ والسُّنَّةِ بأُمورٍ تَقَعُ في المُستَقبَلِ، فوقَعَت كما أخبَرَ. فممَّا ورد في القُرآنِ قولُه تعالى: ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ [الروم: 1-4]  فكان كما أخبَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ. وممَّا ورد في السُّنَّةِ ما جاء عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا هَلَك كِسْرى فلا كِسْرى بَعْدَه))(4) ، فكان الأمرُ كما أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. والأخبارُ في هذا كثيرةٌ يَحصُلُ بمَجموعِها العِلمُ الضَّروريُّ اليَقينيُّ، وهي تدُلُّ دَلالةً واضِحةً على صِدْقِ نُبُوَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعلى وُجودِ الخالِقِ سُبحانَه؛ لأنَّه هو الذي أطلَعَه على ذلك، فلا يُعقَلُ أن يخبِرَ بأشياءَ يَصدُقُ فيها دائمًا إلَّا إذا كان نَبيًّا، وكان الذي أوحى إليه هو من بيَدِه كُلُّ شَيءٍ، وتتطابَقُ أخبارُه مع أقدارِه(5).

ثانيًا: الأحكامُ المتضَمِّنةُ لمصالحِ الخَلْقِ: فقد تضَمَّنت الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ حِكَمًا ومَصالِحَ عظيمةً يَقطَعُ الإنسانُ أنَّها لا يمكِنُ أن تكونَ إلَّا من خالقٍ عليمٍ حكيمٍ؛ فالشَّريعةُ جاءت لتَحصيلِ المصالِحِ وتَكميلِها، ودَرْءِ المفاسِدِ وتَقليلِها(6). 

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) (3/1197).

(2) أخرجه البخاري (7274)، ومسلم (152) واللَّفظُ له.

(3)يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (9/40)، ((مجموع الفتاوى)) (11/379) كلاهما لابن تيمية، ((منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى)) لخالد عبد اللطيف (1/292).

(4) أخرجه البخاري (3618) واللفظ له، ومسلم (2918).

(5) يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (6/80)، ((منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى)) لخالد عبد اللطيف (1/295).

(6) يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (2/215)، ((الموافقات)) للشاطبي (2/17) و (3/7)، ((منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى)) لخالد عبد اللطيف (1/297).

دَلالةُ العَقلِ


إنَّ النَّظَرَ في آياتِ اللهِ للاستِدلالِ بها على رُبوبيَّتِه من النَّاحيةِ العَقْليَّةِ يُمكِنُ تَقسيمُه إلى نوعَينِ:

النَّوعُ الأوَّلُ: النَّظَرُ في آياتِ اللهِ في خَلْقِ النَّفسِ البَشَريَّةِ

قال اللهُ تعالى: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21].

وهذا ما يُعرَفُ بـدَلالةِ الأنفُسِ؛ فالنَّفسُ آيةٌ من آياتِ اللهِ العَظيمةِ الدَّالَّةِ على تفرُّدِ اللهِ وَحْدَه بالرُّبوبيَّةِ لا شَريكَ له، فإذا تفكَّر الإنسانُ في نَفْسِه وما فيها مِن عَجائِبَ، أيقَنَ أنَّ له ربًّا خالِقًا حَكيمًا خَبيرًا قَديرًا رَحيمًا.


النَّوعُ الثَّاني: النَّظَرُ في آياتِ اللهِ في خَلقِ الكَونِ

قال اللهُ تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 185] .وهذا ما يُعرَفُ بـدَلالةِ الآفاقِ.

فكلُّ مخلوقٍ كَبيرٍ أو صغيرٍ هو آيةٌ من آياتِ اللهِ العظيمةِ الدَّالَّةِ على رُبوبيَّتِه.

وقال اللهُ سُبحانَه:  ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس: 101] .

أي: قُلْ -يا مُحَمَّدُ- للمُشرِكينَ الذين يسألونَك الآياتِ: انظُروا ماذا في السَّمواتِ مِن الشَّمسِ والقَمَرِ والنُّجومِ والسَّحابِ، وفي الأرضِ مِن الجِبالِ والبِحارِ، والأنهارِ والأشجارِ، والثِّمارِ والدوابِّ وغيرِ ذلك من المخلوقاتِ الصَّغيرةِ والكبيرةِ، فتفَكَّروا فيها واعتَبِروا؛ فإنَّها دالَّةٌ على وحدانيَّةِ اللهِ في ربوبيَّتِه وأُلُوهيَّتِه، وعلى كمالِ قُدرتِه وعظيمِ صِفاتِه، فتُغنيكم عن طلَبِ الآياتِ(1).


وقال اللهُ عزَّ وجلَّ:  ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53] . فمن تأمَّل الآفاقَ وما في هذا الكونِ من عجائِبَ، دَلَّه ذلك على أنَّ هناك خالقًا لهذا الكَونِ، ومُدَبِّرًا لشُؤونِه(2) .

قال ابنُ كثيرٍ في تفسيرِ قَولِ اللهِ تعالى:  ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [العنكبوت: 19]  قال ابنُ رَجَبٍ: (أخبَرَ سُبحانَه أنَّه إنَّما خَلَق السَّمواتِ والأرضَ، ونزَّل الأمرَ؛ لنعلَمَ بذلك قُدرتَه وعِلْمَه، فيكونَ دليلًا على مَعرِفتِه، ومَعرِفةِ صِفاتِه)(4) .


وقد حكى اللهُ تعالى استِدلالَ موسى عليه السَّلامُ بالآياتِ المشهودةِ في الأنفُسِ والآفاقِ للرَّدِّ على فِرعَونَ الذي كان يَقولُ لِقَومِه: ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: 38] ، فتابعه قومُه على ذلك، كما قال تعالى: ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ [الزخرف: 54] ، فسأل فرعونُ موسى فقال له: ﴿ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 23]  أي: مَن هذا الذي تزعُمُ أنَّه رَبُّ العالَمينَ غَيري؟ - كما قال تعالى: ﴿ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾ [طه: 49] - فأجابه موسى عليه السَّلامُ: ﴿ قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ [الشعراء: 24]  أي: خالِقُ جميعِ ذلك 

ومالكُه والمتصَرِّفُ فيه، وهو الذي خَلَق الأشياءَ كُلَّها؛ العالَمَ العُلْويَّ وما فيه من الكواكِبِ، والعالَمَ السُّفْليَّ وما فيه من عجائِبِ المخلوقاتِ، كالجِبالِ والبِحارِ والأشجارِ، وهذا الردُّ على فِرعَونَ واضِحٌ؛ لأنَّه لا يمكِنُ أن يدَّعيَ مُلْكَه لكُلِّ هذه الأشياءِ، وإنَّما كان له نوعُ مُلكٍ، وهو محدودٌ على مِصْرٍ، فعندما سَمِعَ هذه الحُجَّةَ التفت إلى من حولَه من الملأِ قائلًا: ﴿ أَلَا تَسْتَمِعُونَ﴾ [الشعراء: 25] ؟! على سَبيلِ التهَكُّمِ! ثمَّ زاد موسى عليه السَّلامُ الحُجَجَ فقال: ﴿ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الشعراء: 26]  أي: خالِقُكم وخالِقُ آبائِكم الأوَّلينَ الذين كانوا قبل فِرعَونَ 

وزمانِه، فكيف تَصِحُّ منه دعوى الرُّبوبيَّةِ إذَن؟ فما كان من فِرعَونَ إلَّا أنْ وَصَف موسى بالجُنونِ، فقال: ﴿ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: 27]  إمعانًا في تضليلِ قَومِه، فأجاب موسى بقَولِه: ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الشعراء: 28]  أي: هو الذي جَعَل المشرِقَ مَشرِقًا تَطلُعُ منه الشَّمسُ والكواكِبُ، والمغرِبَ تَغرُبُ فيه الشَّمسُ والكواكِبُ بنِظامٍ دَقيقٍ لا يتغيَّرُ على حَسَبِ تقديره.

 وتقريرُ الحُجَّةِ: إن كان فِرعَونُ صادِقًا في دعواه الرُّبوبيَّةَ فليعكِسْ الأمرَ، فغُلِبَ وانقَطَع وعَدَل إلى استِعمالِ قُوَّتِه(5).
وتلك الآياتُ- سواءٌ المتعلِّقةُ منها بالنَّفسِ البَشَريَّةِ أو غَيِرها مِنَ الكائِناتِ المخلوقةِ في الكَونِ- يمكِنُ الاستِدلالُ بها عَقْلًا على رُبوبيَّةِ اللهِ تعالى بعِدَّةِ طُرُقٍ؛ منها:

أولًا: الاستِدلالُ باستحالةِ صُدورِ الوُجودِ مِن عَدَمٍ
قال اللهُ تعالى: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ﴾ [الطور: 35-36].
فإمَّا أنَّهم خَلَقوا أنفُسَهم، وهذا باطِلٌ؛ لأنَّه يَستلزِمُ وُجودَهم قَبْلَ الخَلْقِ؛ إذ لا يَصدُرُ الوُجودُ مِنَ العَدَمِ.
وإمَّا أنَّه لا خالِقَ لهم أصلًا، فيكونُ العدمُ هو الذي أوجَدَهم، وهذا باطِلٌ أيضًا.
وإما أنَّ لهم خالِقًا، وهو اللهُ سُبحانَه وتعالى(6).

ثانيًا: الاستدلالُ بما في العالَمِ من التغيُّرِ المانِعِ مِن قِدَمِه
وُقوعُ التغيُّرِ الطَّارِئِ على المخلوقاتِ دالٌّ على حُدوثِهم ونُشوئِهم.
قال اللهُ تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ﴾ [فاطر: 11] .
وقال اللهُ سُبحانَه: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ﴾ [النور: 43-44] .
وقال اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 75 – 79] .

ثالثًا: أنَّ الكونَ مُمكِنُ الوُجودِ وما كان كذلك فهو مَخلوقٌ
إمكانُ العَدَمِ والوُجودِ على الكَونِ يَنفي وُجوبَ حُدوثِه بنَفْسِه. 
قال اللهُ تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [إبراهيم: 19] .

وقال اللهُ سُبحانَه: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [الإنسان: 1، 2].

رابعًا: أنَّ الكَونَ وُجِدَ على سَبيلِ الإتقانِ مِمَّا يَمنَعُ كَونَه وُجِدَ مِن غَيرِ مُوجِدٍ
قال اللهُ تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ  فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ *الملك: 3-4*.
وقال سُبحانَه: ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: 88].

خامِسًا: استِحالةُ وُجودِ مُشارِكٍ للهِ في رُبوبيَّتِه
قال اللهُ تعالى: ﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [المؤمنون: 19] .
قال ابنُ أبي العِزِّ: (فتأمَّلْ هذا البُرهانَ الباهِرَ بهذا اللَّفظِ الوَجيزِ الظَّاهِرِ؛ فإنَّ الإلهَ الحقَّ لا بدَّ أن يكونَ خالِقًا فاعِلًا، يُوصِلُ إلى عابِدِه النَّفعَ، ويَدفَعُ عنه الضُّرَّ، فلو كان معه سُبحانَه إلهٌ آخَرُ يَشرَكُه في مُلكِه، لكان له خَلقٌ وفِعلٌ، وحينَئذٍ فلا يرضى تلك الشَّرِكةَ، بل إنْ قَدَر على قَهرِ ذلك الشَّريكِ وتفَرُّدِه بالمُلْك والإلهيَّةِ دُونَه، فَعَل، وإن لم يقدِرْ على ذلك انفَرَد بخَلْقِه وذَهَب بذلك الخَلْقِ، كما ينفَرِدُ ملوكُ الدُّنيا بعضُهم عن بعضٍ بممالِكِه، إذا لم يَقدِرِ المنفَرِدُ منهم على قَهرِ الآخَرِ والعُلُوِّ عليه، فلا بدَّ من أحَدِ ثلاثةِ أُمورٍ:
- إمَّا أن يَذهَبَ كُلُّ إلهٍ بخَلْقِه وسُلطانِه.
- وإمَّا أن يَعْلوَ بَعضُهم على بَعضٍ.
- وإمَّا أن يكونوا تحتَ قَهرِ مَلِكٍ واحدٍ، يتصَرَّفُ فيهم كيف يَشاءُ، ولا يتصرَّفون فيه، بل يكونُ وَحْدَه هو الإلهَ، وهم العبيدُ المربوبونَ المقهورونَ مِن كلِّ وَجهٍ.
وانتِظامُ أمرِ العالَمِ كُلِّه وإحكامُ أمرِه: مِن أدَلِّ دليلٍ على أنَّ مُدَبِّرَه إلهٌ واحِدٌ، ومَلِكٌ واحِدٌ، ورَبٌّ واحِدٌ، لا إلهَ للخَلقِ غيرُه، ولا ربَّ لهم سِواه... فالعِلمُ بأنَّ وجودَ العالَمِ عن صانِعَينِ مُتماثِلَينِ ممتَنِعٌ لِذاتِه، مُستقِرٌّ في الفِطَر، معلومٌ بصَريحِ العَقلِ بُطلانُه) (7).

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة يونس)) (ص: 393).

(2) يُنظر: ((أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة)) لنخبة من العلماء (ص: 12).

(3) )) يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/270).

(4) يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/40).

(5) يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/138)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/116)، ((منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى)) لخالد عبد اللطيف (1/276).

(6) يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/437)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/67)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/495).

(7) يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (1/39).

 

مرفق بصيغة بي دي إف
مرفق بصيغة وورد