تفسير الآيات (104-113)من سورة البقرة

تفسير الآيات (104-113)من سورة البقرة
48 0

الوصف

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقُولُواْ رَٰعِنَا وَقُولُواْ ٱنظُرۡنَا وَٱسۡمَعُواْۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٞ١٠٤مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَلَا ٱلۡمُشۡرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ خَيۡرٖ مِّن رَّبِّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَخۡتَصُّ بِرَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ١٠٥

                    [الأدب في اختيار الكلمات]

نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقامهم وفعالهم ، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص ، عليهم لعائن الله ، فإذا أرادوا أن يقولوا : إسمع لنا ، يقولون : راعنا –  ويورون بالرعونة – كما قال تعالى : « مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَيَقُولُونَ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَٱسۡمَعۡ غَيۡرَ مُسۡمَعٖ وَرَٰعِنَا لَيَّۢا بِأَلۡسِنَتِهِمۡ وَطَعۡنٗا فِي ٱلدِّينِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَا وَٱسۡمَعۡ وَٱنظُرۡنَا لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَقۡوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا٤٦ » [ النساء : 46 ] ، وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون : السام عليكم . والسام هو الموت ، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ « وعليكم » وإنما يستجاب لنا فيهم ، ولا يستجاب لهم فينا .

والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولاً وفعلاً ، فقال : ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقُولُواْ رَٰعِنَا وَقُولُواْ ٱنظُرۡنَا وَٱسۡمَعُواْۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٞ﴾. وروى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول اللہ ﷺ : « بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبه بقوم فهو منهم » ( 1 ) . وروى أبو داود عنه : « من تشبه بقوم فهو منهم » ( 2 ) فيه دلالة على النّهي الشديد والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ، ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم ، وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولم نقرر عليها .

    

المراجع

  (1 ) أحمد : ٢ / ٥٠     ( 2 ) أبو داود : 4 / 314

 

  [ شدة عداوة الكافرين وأهل الكتاب للمسلمين]

وقوله تعالى : « ما يود الذين كفروا من أهل الكتب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم»  يبين بذلك تعالى شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين ، الذين حذر الله تعالى من مشابهتهم للمؤمنين ، ليقطع المودة بينهم وبينهم ، ونبه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل الذي شرعه لنبيهم محمد ﷺ ، حيث يقول تعالى : « والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم» .

﴿۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ١٠٦  أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍ١٠٧

وقال ابن جرير : ﴿۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ ﴾ ، ما ننقل من حكم آية إلى غيره ، فتبدله وتغيره ، وذلك أن نحول الحلال حراما ، والحرام حلالا ، والمباح محظورا ، والمحظور مباحا ، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة ، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ ، وأضل النسخ من نسخ الكتاب ، وهو : نقله من نسخة إلى أخرى غيرها ، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها . وسواء نسخ حكمها أو خطها ، إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة ( 1 ) .

وقوله تعالى : « أَوۡ نُنسِهَا »  ، فقرىء على وجهين ، ( ننسأها) و « نُنسِهَا ». فأما من قرأها بفتح النون والهمزة بعد السين فمعناه : نؤخرها . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : « مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا »، يقول : ما نبدل من آية أو نتركها ، لا نبدلها ( 2 )



المراجع

( 1 ) الطبري : 1 / ٤٧٢ ( 2 ) الطبري : ٤٧٦/ ٢ 

        [ بيان صحة النسخ والرد على اليهود في استحالتهم ذلك]

وقوله : « أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ١٠٦ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٍ» ، يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء ، فله الخلق والأمر ، وهو المتصرف ، فكما [يخلقهم] كما يشاء ، ويسعد من يشاء ، ويشقي من يشاء ، ويصح من يشاء ، ويمرض من يشاء ، ويوفق من يشاء ، ويخذل من يشاء : كذلك يحكم في عباده بما يشاء ، فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء ، ويبيع ما يشاء ، ويحظر ما يشاء ، وهو الذي يحكم ما يريد ، لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصاحبة التي يعلمها تعالى ، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى ، فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره ، واتباع رسله في تصديق ما أخبروا ، وامتثال ما أمروا ، وترك ما عنه زجروا .

 وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود ، وتزييف شبهتهم ، لعنهم الله ، في دعوى استحالة النسخ ، إما عقلا كما زعمه بعضهم جهلاً وكفراً ، وإما نقلا كما تخرصه آخرون منهم افتراءً وإفكاً .

مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعة الماضية ، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ، ثم حرم ذلك .

وكما أباح لنوح ، بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ، ثم نسخ حل بعضها . وكان نكاح الأختين مباحا لإسرائيل وبنيه ، وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها . وأمر إبراهيم عليه السّلام بذبح ولده ، ثم نسخه قبل الفعل .

وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ، ثم رفع عنهم القتل كيلا يستأصلهم القتل . وأشياء كثيرة يطول ذكرها .

قال تعالى : (أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ١٠٦  أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ) ... الآية ، فكما أن له الملك بلا منازع ، فكذلك له الحكم بما يشاء ، (ألا له الخلق والأمر)

« أَمۡ تُرِيدُونَ أَن تَسۡئلُواْ رَسُولَكُمۡ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبۡلُۗ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلۡكُفۡرَ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ١٠٨ »

                    [النهي عن كثرة السؤال]

نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة ، عن كثرة سؤال النبي ﷺ عن الأشياء قبل كونها ، كما قال تعالى : « يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسَۡٔلُواْ عَنۡ أَشۡيَآءَ إِن تُبۡدَ لَكُمۡ تَسُؤۡكُمۡ وَإِن تَسَۡٔلُواْ عَنۡهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلۡقُرۡءَانُ تُبۡدَ لَكُمۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهَاۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٞ١٠١ ﴾ [ المائدة : 101 ] أي وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم ، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه ، فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة ، ولهذا جاء في الصحيح :

 « إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم ، فحرم من أجل مسألته » . ولما سئل رسول اللہ ﷺ عن الرجل يجد مع امرأته رجلا ، فإن تكلم تكلم بأمر عظيم ، وإن سكت سكت على مثل ذلك ، فكره رسول اللہ ﷺ المسائل وعابها ، ثم أنزل الله حكم الملاعنة ، ولهذا ثبت في الصحيحين ، من حديث المغيرة بن شعبة : أن رسول اللہ ﷺ كان ينهى عن قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال ( ۱ ) .

 وفي صحيح مسلم : « ذروني ما تركتكم ، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه » وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم : أنّ الله كتب عليهم الحج . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت عنه رسول اللہ ﷺ ثلاثا ، ثم قال عليه السّلام :

« لا ، ولو قلت : نعم ، لوجبت ، ولو وجبت لما استطعتم » ، ثم قال : « ذروني ما تركتكم » الحديث ( ٢).

ولهذا قال أنس بن مالك: نهينا أن نسأل رسول اللہ ﷺ عن شيء ، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع(٣).

 

المراجع

( ۱ ) فتح الباري : 3 / 398 ومسلم : ١٣٤١/٣( ۲ ) مسلم : ۲ / 975( ۳ ) مسلم : ٤١/١ 

 

﴿ وَدَّ كَثِيرٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَوۡ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَٱعۡفُواْ وَٱصۡفَحُواْ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ١٠٩ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ١١٠

 

               [النهي عن سلوك طريقة أهل الكتاب]

يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب ، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر ، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين ، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم . ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال ، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح ، ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه .

وروى ابن أبي حاتم عن أسامة بن زيد قال : كان رسول اللہ ﷺ وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب ، كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى . قال الله تعالى : « فأعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمري إن الله على كل شيء قدير» وكان رسول اللہ ﷺ يتأول من العفو ما أمره الله به ، حتى أذن الله فيهم بالقتل ، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش(1 ) . وهذا إسناده صحيح ولم أره في شيء من الكتب الستة ، ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد ( 2 ) .

            

 [الترغيب في الأعمال الحسنة]

وقوله تعالى : « وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِۗ » ، يحثهم تعالى على الاشتغال بما ينفعهم ، وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة ، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، حتى يمكن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، «ويوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار» [ غافر : ٥٢ ] ، ولهذا قال تعالى : ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ١١٠ ، يعني أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل ، ولا يضيع لديه ، سواء كان خيرا أو شرا ، فإنه سيجازي كل عامل بعمله .



المراجع

( 1 ) ابن أبي حاتم : ۱ / ۳۳۳( 2 ) فتح الباري : ۸٧/٨ ومسلم : ١٤٢٢/٣

﴿وَقَالُواْ لَن يَدۡخُلَ ٱلۡجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰۗ تِلۡكَ أَمَانِيُّهُمۡۗ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ١١١  بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَلَهُۥٓ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ١١٢ وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ لَيۡسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيۡسَتِ ٱلۡيَهُودُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُمۡ يَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۗ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ مِثۡلَ قَوۡلِهِمۡۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ١١٣

                   [ أماني أهل الكتاب ]

يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه ، حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها ، كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة أنهم قالوا : ﴿نَحۡنُ أَبۡنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُ﴾ [ المائدة : ۱۸ ] فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم ، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك ، وكما تقدم من دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ، ثم ينتقلون إلى الجنة . ورد عليهم تعالى في ذلك ، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة ولا بينة ، فقال : (تِلۡكَ أَمَانِيُّهُمۡۗ) قال أبو العالية : أماني تمنوها على الله بغير حق ( 1 ) . وكذا قال قتادة والربيع بن أنس (2).

 ثم قال تعالى : « قُلۡ » أي يا محمد (هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ) قال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس حجتكم (3) . وقال قتادة : بينتكم على ذلك« فإن كنتم صدقين » ( 4 ) أي فيما تدعونه .

ثم قال تعالى : « بلىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ » أي من أخلص العمل لله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : « فَإِنۡ حَآجُّوكَ فَقُلۡ أَسۡلَمۡتُ وَجۡهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِۗ » . . .  الآية [ آل. عمران : ٢٠ ] . وقال أبو العالية والربيع : « بلى من أسلم وجهه الله»  يقول : من أخلص لله (5) . وقال سعيد بن جبير : « بلىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ و» أخلص « وَجۡهَه » ، قال : دينه ( 6 ) . « وَهُوَ مُحۡسِنٞ » أي إتبع فيه الرسول ﷺ ، فإن للعمل المتقبل شرطين :

أحدهما أن يكون خالصا لله وحده ، والآخر أن يكون صوابا موافقا للشريعة ، فمتى كان خالصا ولم يكن صوابا لم يتقبل ، ولهذا قال رسول اللہ ﷺ : « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » ، رواه مسلم ( 7 ) .

فعمل الرهبان ومن شابههم ، وإن فرض أنهم مخلصون فيه الله ، فإنه لا يتقبل منهم ، حتى يكون ذلك متابعا للرسول ﷺ ، المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ، وفيهم وأمثالهم قال الله تعالى : « وَقَدِمۡنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنۡ عَمَلٖ فَجَعَلۡنَٰهُ هَبَآءٗ مَّنثُورًا﴾ [ الفرقان : ٢٣ ] وقال تعالى : « وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَسَرَابِۢ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡئانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡئا» [ النور : 39 ] ، وقال تعالى :﴿ وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٍ خَٰشِعَةٌ٢ عَامِلَةٞ نَّاصِبَةٞ٣ تَصۡلَىٰ نَارًا حَامِيَةٗ٤ تُسۡقَىٰ مِنۡ عَيۡنٍ ءَانِيَةٖ٥ ﴾ [ الغاشية : ٢-٥ ]

وأما إن كان العمل موافقا للشريعة ، في الصورة الظاهرة ، ولكن لم يخلص عامله القصد الله ، فهو أيضا


 

المراجع

( 1 ) أبي حاتم : 336/1( 2 ) ابن أبي حاتم : 336/1 ( 3 ) ابن أبي حاتم : ۱ / ۳۳۷(4 ) ابن أبي حاتم : ۳۳۷/۱ ( 5 ) ابن أبي حاتم : ۳۳۷۱/۱( 6 ) ابن أبي حاتم : ۳۳۸/۱ ( 7 ) مسلم : 1344/3

 

 

مردود على فاعله ، وهذا حال المرائين والمنافقين ، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا    [ النساء : ١٤٢ ]

 

           [تنازع اليهود والنصارى فيما بينهم كفراً وعناداً ]

وقوله تعالى : « وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ لَيۡسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيۡسَتِ ٱلۡيَهُودُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُمۡ يَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۗ » ، بين به تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم و تعاندهم ، كما روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس ، قال : لما قدم أهل نجران من النّصارى ، على رسول اللہ ﷺ ، أتتهم أحبار يهود ، فتنازعوا عند رسول اللہ ﷺ ، فقال رافع بن حريملة : ما أنتم على شيء وكفر بعيسى وبالإنجيل . وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود : ما أنتم على شيء . وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة . فأنزل الله في ذلك من قولهما : « وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ لَيۡسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيۡسَتِ ٱلۡيَهُودُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُمۡ يَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۗ» ( 1 ) .

وقال ابن جريج : قلت لعطاء : من هؤلاء الذين لا يعلمون ؟ قال أمم كانت قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة والإنجيل (2 ) . وقال السدي : « كذلك قال الذين لا يعلمون » ، فهم العرب ، قالوا ليس محمد على شيء (3 ) . واختار أبو جعفر بن جرير أنها عامة تصلح للجميع ، وليس ثم دليل قاطع يعين واحدا من هذه الأقوال ، فالحمل على الجميع أولى ، والله أعلم .

 وقوله تعالى : « فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ» ، أي إنه تعالى يجمع بينهم يوم المعاد ، ويفصل بينهم بقضائه العدل ، الذي لا يجوز فيه ولا يظلم مثقال ذرة.


 


المراجع

( 1 ) ابن أبي حاتم : ۳۳۹/۱ ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت( 2 ) ابن أبي حاتم : 340/1 ( 3 ) ابن أبي حاتم : 340/1

 

 

الفوائد التربويَّة:

  • أنَّ الإيمان مقتضٍ للأخلاق الفاضِلة؛ لأنَّ مراعاة الأدب في اللَّفظ من الأخلاق الفاضِلة، وقد أمَر الله تعالى بها، مخاطبًا بذلك أهلَ الإيمان، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا .
  • من الأدَب الحِرصُ على اختيار الألفاظ الحسَنة، ومِن ذلك تجنُّب الألفاظ التي تُوهِم سبًّا، وشتمًا؛ لقوله تعالى: لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا .
  • أنَّ خيرَ الله تعالى لا يَجلِبه ودُّ وادٍّ، ولا يردُّه كراهةُ كارهٍ؛ لقوله: وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ .
  • يجب على المسلم الحذرُ من كلِّ تصرُّف يصدُر عن اليهود والنصارى، والمشركين عمومًا، مع اتِّخاذهم أعداءً؛ ولذا يحرُم على المسلمين أن يُوَلُّوا الكفَّارَ أيَّ قيادة؛ لأنَّهم ما داموا لا يودُّون للمسلمين الخيرَ، فلن يقودوهم له، مهما كان الأمرُ، كما قال تعالى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 105] 
  • مراعاةُ الأحوال، حيثُ قال تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ .
  • في قوله تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ بِشارةٌ للمؤمنين بأنَّ الله سبحانه وتعالى سيغيِّر حالَهم المقتضية للعفو والصَّفح، إلى قوَّةٍ يَستطيعون بها جهادَ العدوِّ .
  • إقام الصلاة لا يعني مجرَّد أدائها، وإنما هو القيام بحقوقها الرُّوحيَّة في صورتها العَمليَّة، وذلك بالتوجُّه إلى الله سبحانه، ومناجاتِه، والانقطاعِ إليه عمَّا عداه، وإشعار القلْب بعظمته وكبريائه، فبهذا الشُّعور ينمو الإيمان، وتَقوى الثقةُ بالله تعالى، وتتنزَّه النَّفسُ عن أن تأتيَ الفواحش والمُنكَرات، وتستنير البصيرةُ؛ فتكون أقوى نفاذًا في الحق، وأشدَّ بُعدًا عن الأهواء، فنفوس المصلِّين جديرة بالنَّصر؛ لِمَا تُعطيها الصَّلاة من القوَّة المعنويَّة، ومن الثِّقة بقُدرة الله عزَّ وجلَّ .
  • أنَّ إقامة الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة من أسباب النَّصر؛ لأنَّ الله ذكَرها بعد قوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ [البقرة: 109]  وقد جاء ذلك صريحًا في قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 40-41]
  • أنَّ مَن اغترَّ بالأماني، وطمِع في المنازل العالية بدون عملٍ لها، ففيه شَبَهٌ من اليهود، والنَّصارى، كما قال تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ .

 في قوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ... التحذير من التعصب في الدين والترامي بالكفر، وتفريق كلمة المسلمين، والله تعالى قد أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، وقد امتاز أهل الحق، من هذه الأمة بالسنة والجماعة، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ويعرضون عن سنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وعما مضى عليه المسلمون .

مرفق بصيغة بي دي إف
مرفق بصيغة وورد